الغيرة هي من المشاعر الإنسانية التي يستحيل أن يتفق عالِمان على تعريفٍ لها، فهي ليس عملية حسابية ولا يوجد قانون فيزيائي يحكمها، ولكن حاول العلماء والفلاسفة إيجاد تعريف ومعنى لها؛ أو لنكون أكثر واقعية فقد حاولوا إيجاد توضيح لهذه المشاعر الإنسانية؛ بلغة بسيطة يمكن أن يفهمها العامة. الغيرة أمرٌ موجودٌ عند الجميع، ويتخلف معناها من شخصٍ لآخر، فهناك من عرَّفها على أنها أفكار وأحاسيس وتصرفات تحدث عندما يعتقد الشخص أن علاقته القوية بشخص ما تهدد من قبل طرف آخر منافس، وهناك من قال عنها حركة انفعالية ونارٌ تشتعِل في القلب، ومنهم من قال إنها القائد الأعمى للإرادة. ولكن يمكننا أن نوقل عنها على أنها غريزة فطرية وانفعالٌ مُركَّب؛ زرعها الله سبحانه في النفس البشرية، وهي مزيج من حبِّ التملُّك والشعور بالغضب، هي طاقة كامنة لا تشعر بوجودها ولا بقوَّتِها حتى تنفجر.
الغيرة شعور لا يوصفُ ولا يُقاس، ولكنها مثل كل المشاعر الإنسانية إذا زادت عن الحدِّ المعقول تحوَّلت مرضاً نفسياً يجب التعامل معه فوراً ومحاولة العلاج و دواء من آثاره ومُضاعفاته. الغيرة مرتبطة بحبِّ التملُّك، فلا أحد يرغب بأن يُشاركه أي مخلوق فيما يمتلك، وخصوصاً عندما يتعلَّق الأمر بالعلاقات الإنسانية، فالحبيب يرفضُ رفضاً قاطِعاً أن يشاركه أي مخلوق في محبوبته، والزوجة يستحيل أن تتقبَّل أن تشاركها أي امرأة في زوجها؛ والحبيبة كذلك مع حبيها، فبالنسبة لهم هذا الشخص هو مُلْكٌ خالص له أو لها، ومجرَّد الاقتراب منه يعني تجاوزاً لكل الخطوط الحمراء ويستوجب إجراءات مضادة.
ليس هناك عمر معيَّن لظهور الغيرة عند الإنسان، فالغيرة موجودة حتى عند الطفل الرضيع، فهو يغضب بشدَّة لو رأى أن والدته تحمل طفلاً آخر، أو أنها تُرضِعُ غيره، لأن هذه المرأة هي ملكٌ شخصي له. ونرى هذه المشاعر بشكلٍ أوضح عندما يُرزق الزوجان بالطفل الثاني، فنراها واضِحةً جلية في تصرفات الطفل الأول، فبالنسبة له؛ أبواه ملكٌ له وحده، وهذا الزائر الجديد تعرف ما هو إلا متطفِّلٌ أتى لينتزع المجدَ منه. والغيرة عند الأطفال منبعها البراءة ولا مكان للخُبثِ فيها، فهم لا يميِّزون بين الصواب والخطأ، ولذلك فهم لا يستطيعون أن يتحكَّمون في هذه المشاعر التي قد تصل نتيجتها إلى حدِّ الإيذاء للطرف الآخر. والغيرة من الأمور التي تشتهرُ فيها النساء كثيراً، وهي أقوى عند النساء منها عند الرِّجال، فالمرأة كائن عاطفي بطبيعتها، ولذلك تكون الغيرة لديها أقوى لِكِبَر مساحة العاطفة لديها، ويكون العواقب أكبر لأنها تتصرف بناءاً على هذه العاطفة؛ وليس بناءاً على تفكير منطقي مُمَنهج.
الغيرة نوعان، منها الغيرة المحمودة والغيرة المذمومة، الغيرة في حدِّ ذاتها شعورٌ محايد حتى نُضيف له نحن البشر النزعة التي نريدها، فإن كانت نزعة إيجابية؛ أصبحت الغيرة محمودة، وإن كانت النزعة سلبية؛ فتكون غيرة مذمومة. وكأي أمر في الدنيا إذا زاد عن حدِّه انقلبَ ضده، فقد تكون الغيرة بنَّاءة وقد تكون هدّامة، فالغيرة التي ترفع من صاحبها وتدفعه إلى تطوير نفسه ومجتمعه هي غيرة محمودة، أنا التي تدفع صاحبها إلى التدمير والتخريب وفعل كل تعرف ما هو مَنهِيٌّ عنه فهي الغيرة المذمومة. الغيرة دافع، فلنجعلها دافِعاً لنا نحو التطوُّر والتقدُّم، فنحن نرى الأشخاص الآخرين الناجحين في أعمالهم ومع أُسرِهم، لنحاول أن نكون مثل هذا النموذج الذي نراه، ولا نكون نحن من يحاول تدمير نموذجٍ راقٍ والسبب في إفساد الورابط القوية؛ فقط لأننا لا نملك مثلها في حياتنا. لا تُهاجم زميلك الناجح في عمله، بل حاول أن تصل لنجاحه وتتجاوزه بجِدِّك واجتهادك. حافِظي على زوجك وكوني له ما يريد؛ فيكون لكِ وحدك، ولكن لا تسلبيه سعادته وتتحامَلي على كل النساء اللاتي يراهن في حياته اليومية. ادرس واجتهد لتحصل على علامات و دلائل أعلى من زميل دراستك المتفوِّق، ولا تحاول أن تحرفه عن الطريق لينزل في مستواه الدراسي فيكون أقل منك.
ما سبق مجرَّد أمثِلة على الغيرة، ومنها نستنتج أن الغيرة إما أن ترفعك فوق الناس؛ أو تدفعُكَ لارتكاب أمرٍ يجعل من تغار منه يُصبِح أقل منك، وفي الحالة الثانية أن انحدرتَ بمستواك الفكري إلى انحطاطٍ ما بعده انحطاط، نزلت إلى قاعٍ سحيق. بينما في الأولى أنت قمتَ وعملتَ وجعلت من نفسك إنساناً قادراً على التغيير والتطوير، إنساناً مُفيداً لنفسه ولمجتمعه، وليس مجرَّد حشرة تقتاتُ على هفوات الآخرين.