تشي جيفارا
إرنستو تشي جيفارا من مواليد الأرجنتين في الرابع عشر من يونيو 1928م، من أصولٍ إيرلندية وإسبانية باسكية، نشأ في أسرةٍ تميل لليسارية، تعامل منذ صغره مع طائفةٍ واسعة من وجهات نظرٍ سياسية مختلفة، في فترة صباه كان والده يؤيّد الجمهوريين الإسبان، وكان دائم الاجتماع بقُدامى المحاربين في منزله.
إرنستو جيفارا كان رياضياً بارعاً، برع في كرة القدم والسباحة والرماية والجولف وقيادة الدراجات على الرّغم من نوبات الربو التي لازمته طوال حياته، برع في رياضة الرغبي، وكان دوماً يلعب في خطّ المنتصف بعد انضمامه لفريق النادي الجامعي لبوينس آيرس، حيث لُقّب بـ (فوزر دي لا سيرنا) أي المشتعل العدواني في اللعب.
هواياته وميوله
تعلّم جيفارا عن والده لعبة الشطرنج، وشارك في عددٍ من البطولات المحلية، بالإضافة لهذا كان يعشق الشعر والشعراء وعلى وجه الخصوص جون كيتس وبابلو نيرودا وغارسيا لوركا وغيرهم؛ حيث كان يحفظ قصائدهم عن ظهر قلب، كان يقتني في منزله ما يزيد عن ثلاثة آلاف كتاب، لشغفه بالقراءة؛ حيث كان ينتقي كتبه بعناية، فقد كان يقرأ للعديد من الكتّاب كجواهر لال نهرو، وكارل ماركس، وأندريه جيد، وفرانز كافكا، وألبير كامو وغيرهم.
بعد أن كبر توجّه اهتمامه لقراءة كتب لكُتّاب أمريكا اللاتينيّة ومنهم خورخي إيكازا، وهوراسيو كيروغا، وروبين داريو وغيرهم، وعمل العديد من الدراسات التحليليّة لأرسطو وبوذا، إلى جانب فتنته بأفكار سيغموند فرويد؛ حيث تأثّر بمجموعته التي تتحدث عن (الأحلام، وعقدة أوديب، والرغبة الجنسية، والنرجسية)، هذا بالإضافة لمواضيعه المفضّلة التي تتحدث عن الرياضيات والفلسفة والعلوم السياسية والهندسة وعلم الآثار وعلم الاجتماع، وفي شهر شباط من عام 1958م تمّ نشر (السيرة الذاتية والتقرير الشخصي) السريين من قبل وكالة المخابرات المركزيّة؛ حيث أشارت فيها إلى أنّ تشي جيفارا يتمتّع بثقافة وخلفية متنوّعة من الاهتمامات على الرغم من أنّه لاتيني الأصل.
رحلة تشي جيفارا
قام جيفارا في سنته الدراسية الأخيرة في الجامعة - حيث كان يدرس الطب - بجولةٍ على الدراجة النارية في أرجاء أميركا الجنوبية، قام قبلها بأخذ إجازةٍ من الجامعة لمدة سنة لإتمام رحلته تلك، كان الهدف من رحلته تلك المشاركة في العمل التطوّعي في مستعمرة (سان بابلو لمرضى الجذام) في البيرو، انطلق في رحلته تلك مع صديقه ألبيرتو غرانادو، أثناء رحلته تلك شعر جيفارا بالذهول لشدّة البؤس والفقر في المناطق التي قطعها؛ حيث كانت الأراضي التي يعمل بها الفلّاحون بكد طوال النهار تعود لأثرياء، دوّن جيفارا كل ما صادفه في رحلته في دفتر مذكراته الذي أصبح فيما بعد تفاصيل كتاب (يوميات دراجةٍ نارية)، وقد حقّق هذا الكتاب أعلى نسبة مبيعات حسب ما ذكرته نيويورك تايمز.
استتنتج ثائرنا العظيم من خلال رحلته تلك على الدراجة النارية بأنّ أمريكا اللاتينية عبارة عن كيانٍ واحد يتطلّب خطّة استراتيجية لتحريرها على نطاق القارة، ومن هنا بدأ نشاطاته الثوريّة.
عند عودته قام بمتابعة دراسته وحصل على شهادة الطب ليصبح إرنستو جيفارا بشكلٍ رسمي، ومن خلال أسفاره المتعددة استنتج وجود رابط قوي بين الفقر والمرض والجوع، وأنّ موت أطفال الفقراء بات أمراً غير مهم عند ذويهم عليهم تقبله، من هذا المنطلق ولأجل مساعدة هؤلاء الفقراء عليه التخلّي عن مهنة الطب والتوجّه للساحة السياسيّة، والكفاح المسلح.
صفات جيفارا
جيفارا كان شديد القسوة على المنشقّين؛ حيث كان يطلق عليهم النار دون تردد، وكان يرسل فرق الإعدام لملاحقة المنشقين لخيانتهم للثورة ومبادئها، ومن هنا أصبح الناس يهابونه لقسوته ووحشيته، فقد كان المسؤول عن تنفيذ أحكام الإعدام فوراً على من يُتّهم بالتخابر، أو الجواسيس أو الفارين.
في المقابل كان خفيف الظل يُرفّه عن رجاله في فترات الراحة؛ حيث كان يقرأ القصص والروايات لهم أو أو قراءة الشعر الغنائي الإسباني، وصفه فيدل كاستروا قائلاً بأن تشي جيفارا زعيمٌ مثالي، ذكيٌ وجريء، سلطته المعنوية كبيرة على قواته، ولاحظ كاسترو بأنّ شجاعة جيفارا بلغت حد التهور.
الثورة الكوبيّة
تعرف جيفارا على لوبيز راؤول كاسترو في مدينة مكسيكو، وقام الأخير بتعريفه على أخيه الكبير فيدل كاسترو زعيم حركة 26 يوليو، وكان فيدل يُخطّط بجدية للإطاحة بحكم الديكتاتور الكوبي باتيستا.
عقد اجتماع بين فيدل كاسترو وجيفارا للمرة الأولى، خلال نقاش طويل دار بينهما خلص جيفارا إلى أنّ قضية فيدل كاسترو هي ما كان يبحث عنه، ومع حلول الفجر كان جيفارا قد انضمّ لحركة الـ26 يوليو ليصبح أحد أعضائها، فقد اعتبر أمريكا هي المسيطرة على الحكومات والداعمة للأنظمة القمعيّة كنظام باتيستا الذي كان كدمية في أيدي الولايات المتحدة الأميركية.
انطلق جيفارا إلى كوبا قادماً من المكسيك من خلال المركب (غرانما) على الرّغم من أنه مركب قديم، تمّ تحديد يوم 25 نوفمبر 1956 بأنّه يوم للهجوم على كوبا، هاجمهم رجال باتيستا فور وصول المركب إلى الشاطئ وهبوطهم منها، كان عددهم 82 مقاتلاً، لم ينج في هذا الهجوم سوى 22 مقاتلاً، قام خلالها جيفارا بإلقاء اللوازم الطبية والتقاط صندوقٍ من الذخيرة من مخلّفات أحد رفاقه الذين قتلوا خلال المعركة.
هربت المجموعة الصغيرة إلى عمق جبال سيبيريا مايسترا، وتلقت الدعم هناك من حركة 26 يوليو وفرانك باييس وشبكة حرب العصابات في المدن بالإضافة للفلاحين المحليين، ودار جدل في تلك الفترة حول كاسترو ما إذا كان ما يزال على قيد الحياة أم مات، نفا خبر موته مقابلة أجريت له مع هربرت ماتيوز بصحيفة نيويورك تايمز، أدرك جيفارا في تلك الأثناء أهمية وفائدة وسائل الإعلام في ثورتهم تلك.
قام جيفارا بعمل مصنع لعمل القنابل اليدوية وأفران لصناعة الخبز، وقام بإعطاء دروس للمجنّدين الجدد في التكتيكات العسكرية التي تلزم لمواجهة الأعداء، وقام بعمل مدارس لمحو الأمية لتعليم الفلاحين القراءة والكتابة، وقام بإنشاء عيادات صحيّة، وصحيفة لنشر المعلومات، كلّ تلك الأمور بيّنت مدى قدرة جيفارا وشجاعته، وأطلقت عليه مجلة تايم لقب (عقل الثورة)؛ حيث تمّت ترقيته إلى الرجل الثاني في الجيش بعد فيدل كاسترو.
إنجازات جيفارا خلال الثورة
لعب جيفارا دوراً أساسياً في إنشاء محطة إذاعيّة سرية أطلق عليها (راديو ريبيلدي)، تبث الأخبار والتصريحات من حركة 26 يوليو للشعب الكوبي، وقام جيفارا مع قواته بحسم معركة لاس مرسيدس عام 1958م، حيث قام بوقف استدعاء 1500 رجل من قبل باتيستا لتدمير قوات كاسترو، واشتهر جيفارا بتكتيكاته الحربية المذهلة وبسياسة الكر والفر التي اشتهر بها أثناء هجومه على قوات باتيستا والتلاشي قبل حدوث أي هجومٍ مضاد.
بعد العديد من التنقّلات والمواجهات نجح جيفارا بالوصول إلى هافانا العاصمة، وقام بالسيطرة عليها سيطرةً تامة، وبهذا تكون الثورة الكوبية التي أشعلها عدد قليل من الرجال بقيادة جيفارا وكاستروا قد انتصرت بفضل جسارة وشجاعة جيفارا، ومن هنا أعلنت حكومة الثورة بأنّ جيفارا مواطناً كوبيّاً في فبراير تقديراً منها لدوره الكبير في هذا الانتصار، وأعطي الجنسية والمواطنة الكاملة، وتمّ تعيينه مديراً للمصرف المركزي.
وقام جيفارا بالإشراف على محاكمات الخصوم وبناء الدولة في فترة عدم إعلان الوجه الشيوعي للدولة بعد، وبعد تولّي الثوّار زمام الأمور وعلى وجه الخصوص الجيش، تمّ إعلان قيام الحكومة الشيوعية؛ حيث تم تعيين جيفارا وزيراً للصناعة وممثلاً لكوبا في الخارج، والناطق باسم الدولة في الأمم المتحدة.
لم تنته ثورة جيفارا إلى حدّ هذا الانتصار، فقد انطلق إلى الكونغو بعد أن قدم استقالته من منصب الوزير، ليشارك هناك في الثورة، وقدّم علمه وخبرته بوصفه خبيراً في حرب العصابات في الصراع الجاري في الكونغو.
وفاة جيفارا
فيليكس رودزيغيز هو أحد المنفيين الكوبيين، تحول إلى مخبر سري لصالح وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، قام بمد يد العون للسلطات البوليفية في مطاردة واعتقال جيفارا بالإخبار عن موقعه، على إثر هذه المعلومات قامت القوات بمحاصرة جيفارا وأسره، حيث اقتيد إلى مبنى مدرسة متهالكة في قريةٍ قريبة من المكان، رفض خلال اعتقاله أن يتمّ استجوابه من قبل ضباط بوليفيين، وعلى الرّغم من وضعه الذي وصف بأنّه كان مروعاً في تلك الأثناء إثر إصابته إلا أنه قام برفع رأسه وطلب سيجارةً، وعندما حاول أحد الجنود نزع غليونه من فمه للاحتفاظ به كذكرى، قام جيفارا بركله ركلةً قوية على الرغم من أنه كان مُقيّد اليدين ومصاباً في قدميه، وقام أيضاً بالبصق في وجه الأميرال البوليفي أوجاتاشي قبل إعدامه بوقتٍ قصير.
طلب رؤية مُدرّسته قبل إعدامه، وهي جوليانا كوليز التي وصفت نظرته بالهادئة الساخرة؛ بحيث لم تتمكن من النظر إلى عينيه أثناء محادثته وعلّلت هذا الأمر بأنه يملك نظرات خارقة؛ حين كان يشكو من وضع المدرسة المزرِ.
في صباح اليوم التالي صدر قرار بإطلاق النار على جيفارا، وقبل تنفيذ حكم الإعدام سئل إن كان يُفكّر في خلود ما بعد الموت؟ فأجاب بأنّه لا يفكر إلا بخلود الثورة وحسب، ثمّ تابع قائلاً: أنا أعلم أنك جئت لقتلي، أطلق النار يا جبان إنك لن تقتل في النهاية سوى رجل.
تردد تيران الذي طلب منه تنفيذ حكم الإعدام في إطلاق النار، ثمّ قام بإطلاق النار على قدمي جيفارا وذراعيه، وتابع إطلاق النار عليه حتى أصابته رصاصةًّ قاتلة في صدره، حيث وضعت تلك الرصاصة حداً لحياة ثائر بطل، وكان بداية ميلاد ثائر أسطوري تاريخي لا يموت.