يلعب عضو اللسان في الإتسان دورًا كبيرًا وهامًا في حياة الإنسان، إذ يضطلع بمسؤوليات جسام ومهمات عظام. فهو الذي يمنح صاحبه المقدرة على التعبير عن المشاعر والأحاسيس، ونقل الأفكار، والتواصل مع الآخرين.
من هنا يحظى هذا العضو بمستوى رفيع ودرجة عالية، من الحضور الذي يدوم ويستمر طويلا. في الوقت ذاته يمثل اللسان تقنية لغوية ينبغي التوقف عندها والوقوف عليها. فهذه التقنية تترجم لغة وكلامًا: مقروءًا أو مكتوبًا أو متحدثا.
إن اللغة الإنسانية لا تأتي من فراغ أو من عبث، وليست رجمًا في الغيب، بل تنطلق من أسس وأركان ودعائم تعمل على توجيه اللغة الوجهة الصائبة. فحين يوجّه المتكلم رسالة لغوية إلى المستمع، ينبغي أن تتضمن لغة واضحة المعالم مفهومة المقاصد والغايات، وفي إطار الحديث عن أركان اللغة، تجدر الإشارة إلى أن علمي النحو والصرف يشغلان المرتبة الأولى فيها، وقد ارتأى كاتب هذه السطور التعريج– بقدر بسيط- على المعنيين: اللغوي والاصطلاحي لمفهومي النحو والصرف، إذ تقتضي الطريقة المنهجية هذا الأمر في التناول.
أولاً- المعنى اللغوي:-
1-(النحو): ورد في المعجم الوسيط- ضمن مادة نحو- عدد من المعاني لهذه الكلمة، مثل: القصد، الاتجاه. و(النحو) علم علم تعرف به الحركات الإعرابية لأواخر الكلمات.
2- (الصرف): من معاني هذه الكلمة- ضمن مادة صرف، في المعجم الوسيط أيضًا: صروف الدهر، نوائبه، حدثاته، وفي الاقتصاد تعني: مبادلة العملة الوطنية بأخرى أجنبية. و(الصرف) علم تعرف به أبنية الكلام واشتقاقاته.
ثانياً- المعنى الإصطلاحي:
1-علم النحو: هو الركن الأول لمادة اللغة العربية، ومجاله البحث في تركيب الجملة، حيث تتحول إلى كلام يحسن السكوت عليه ويمكن الإفادة منه، وذلك حين تأخذ اللغة دور الخطاب بين المتكلم من جهة والمخاطب من جهة أخرى، من خلال الاعتماد على قواعد النحو المعروفة والمتفق عليها بين الطرفين، من حركات وغيرها.
من هنا يلحظ القارئ الكريم لهذا المقال، توافر عوامل مشتركة بين المعنيين: اللغوي والاصطلاحي لعلم النحو، تبدو واضحة بشكل جليّ، عبر اعتماد مبدأ الاستقامة اللغوية، التي تعد المرجعية الهامة والرئيسة لعلم النحو، بحيث يتم إضفاء ذلك على مادة اللغة العربية. فعلم النحو لا يحظى بأهمية وفائدة تذكر بغياب تلك المرجعية.
2-علم الصرف: هو الركن الثاني لمادة اللغة العربية، حيث يشكل الوجه الآخرلها. وينصب تركيزه على بنية الكلمة في اللغة؛ لمعرفة حركات حروفها. تبعًا لحالتها الاشتقاقية: تأنيثا أو تذكيرًا، أو إفرادًا أو تثنية أو جمعًا، أو ما شابه.
ثمة عوامل مشتركة بين المعنى اللغوي والاصطلاحي لعلم الصرف، تتمثل في حصول تغيير على حالات الحروف في الكلمة. من هنا يتبيّن- من كل ما سبق ذكره- أهمية وفائدة العلمين السابقين في التأسيس لمادة اللغة العربية، حيث يتحتم توافرهما فيها وقيامها عليهما؛ كي تصير لغة ذات معنى ومغزى، إلى جانب الفائدة والقيمة اللتين ستتحلى بهما.
ثالثاً- علما النحو والصرف قديماً وحديثاً:
1- علما النحو والصرف قديماً:
ليس من العسير على المتصفّح لكتب اللغة العربية القديمة، أن يكتشف أنها لا تكاد تفصل بين علمي النحو والصرف، بل تكاد توحّد فيما بينهما وتدمج أحدهما في الآخر، بحيث تتعامل معهما بصفتهما وجهين لشيء واحد متمثل في مادة اللغة العربية، وبدا ذلك واضحًا وجليًا عند اللغويين والنحويين العرب القدماء. فعلى سبيل المثال لا الحصر يستطيع القارئ- بكل يسر وسهولة- أن ينظر في كتاب نحوي قديم موسوم بـ"شرح المفصّل" ومؤلفه الزمخشري؛ ليجد عملية الدمج بين علمي النحو والصرف.
2- علما النحو والصرف حديثاً:
وأما في العصر الحديث فقد اختلف الأمر كثيرًا، إذ حرص علماء اللغة على وضع كل علم من العلمين السابقين في مجال واحد، بحيث أصبح الواحد منهما مستقلا بذاته عن الآخر؛ لكون هذا العصر قد نحا منحى التخصص، الذي أصبح أهم سمة من سماته. لقد انبرى العدد الكثير من المؤلفين المعاصرين للتأليف في علم النحو، بحيث أفردوا له مجالا خاصًا به، في المقابل أفردت كتب أخرى لعلم الصرف.
فثمة كتابان معاصران: فأما أحدهما فيقع في سياق علم النحو بعنوان "التطبيق النحويّ"، وأما الآخر فمضمونه علم الصرف وعنوانه "التطبيق الصرفي"، مع أن مؤلف الكتابين شخص واحد اسمه صبحي الصالح. وهناك العديد من الكتب الأخرى للعلمين السابقين، جاء كل واحد منها مقتصرًا على علم واحد فحسب، إلا أن هذا المقام لا يسمح بذكرها
من هنا يمكن الزعم باتسام العصر القديم بالجانب الشمولي لعلمي النحو والصرف، حيث غلبت عليه ظاهرة الاندماج بينهما. وأما العصر الحديث فطبّق شعارًا مؤداه: الاستقلال التام بين العلمين. وعلى الرغم من ذلك، فإنني أرى أن موضوع الفصل بينهما في هذا العصر، إنتعرف ما هو جاء لغاية تعليمية فحسب، تتمثل في اتباع أسلوب التسهيل على متعلمي اللغة، إضافة إلى إثارة تشوقهم.
وأما من الناحية المنهجية فيتعذر الفصل بين العلمين؛ كوننا نتناول اللغة وفقا للطريقة الكلية لا الجزئية، حين نتعامل معها أو نتواصل بها، إضافة إلى تعذر استغناء أحد العلمين عن الآخر في تشكيل مادة اللغة العربية، فكل واحد منهما مكمل للآخر، ومن ثم فإن الاثنين يسهمان معًا في عملية إثراء المادة اللغوية.
رابعاً- العلم البلاغي:
ويشكل الركن الثالث من أركان اللغة العربية. ومع أن هذا المقال اقتصر على علمي النحو والصرف، إلا أنه يتحتم المرور- ولو بشكل سريع- بالعلم البلاغي، الذي لا يقل دورًا وأهمية وفائدة عن دوري علمي النحو والصرف من جهة، ولارتباطه الشديد بهما من جهة أخرى؛ لذا فإنه من التفريط بمكان إغفاله أو تجاوزه.
من جانب آخر، يتجلى دور هذا العلم في كسر حدة الجمود الناجم عن العلمين السابقين، ومن ثم محاولة إزالة حالة النفور التي قد تكتنف نفوس المتعلمين منهما، بالإضافة إلى التخفيف وانقاص من مستوى الملل و الفتور، الذي قد يصيب ذائقة المتلقي.
فالعلم البلاغي يبعث حركة الحياة في اللغة، ويضفي عليها مسحة جمالية، حين يعيد إليها الروح ثانية بعد أن فقدتها من علمي النحو والصرف. في الوقت ذاته يحظى علم البلاغة بهالة من السحر وحالة من الدهشة الجمالية لدى الذائقة اللغوية للمتلقي؛ بوصفه علمًا فحواه جماليات اللغة، من خلال التشبيه والاستعارة والكناية والمجاز، وما شابه.