ما المقصود بقولنا شاعر مخضرم ؟؟؟
لا تزال الموسيقا من أقدم ما استثار نفس الإنسانية ، ومن أرقى ما استثار همومها وحضها على مكارم الأخلاق الشعر ، ويقصد بالشعر القديم طبعا هو الكلام الموزون المقفى ، ولم يكن الإسلام إذ جاء ليحرم البشرية من أرقى وأسمى منتجاتها الفكرية ، وإنما جاء ليهذب ما ضاع منها ، وهذا باختصار ما أصاب الشعر ، فقد ارتقى الإسلام بمعانيه ، ومقاصده ، ورسالته ، بل واستطاع هذا الدين أن يكون في كفة الميزان مع القارئ ضد الناقد ، فإذا كان الناقد الحديث يسعى للغموض والرمزية سعيا حثيثا ، فقد سعى الإسلام لشفافية من الوضوح ، تكسب الشعر رونقه ، والرسالة وضوحها ، ولا يقصد بالوضوح هنا الوضوح الفاضح ، وإنما اللمح الذي يعرفه أي دارس للغة العرب من المتعلمين عملا بقول البحتري :
والشعر لمح تكفي إشارته ..... وليس بالهذر طولت خطبه
فجاء الإسلام على بيئة عربية جزلة ، فصيحة اللسان ، تتكلم بالفصحى بالسليقة ، وتعرب الكلام على طبيعتها ، وكان هناك رقيا أدبيا واضحا في الشعر والنثر في الخطابة والرسالة ، صحيح أن الرسائل كانت ضعيفة ، ولكنها كانت موجودة ولكنها مشافهة في غالبها ، وكان أول شاعر يستطيع النقاد أن يضعوه داخل سلم التاريخ العربي هو امرؤ القيس ، والحق أنه كان ذا شاعرية جزلة بل يذكر أنه أول من استخدم لفظة " ولا سيما " وذلك في قوله في معلقته :
ألا حبذا يوما منهن صالح ....... ولا سيما يوم بدارة جلجل
هذا البيت على قصر عبارته يعد دعامة باب كامل من أبواب النحو العربي التي تلحق الاستثناء ، لتعلم أن الله عز وجل كان يهيئ لقرآنه الكريم لغة عظيمة ، ولسانا لا يعتريه شيء من العجمة ، ثم عرف الشعراء المطبوعين ، كالنابغة الذبياني وحسان بن ثابت والخنساء وعمرو بن كلثوم ، وشعراء الصنعة كزهير بن أبي سلمى وابنه كعب والاعشى" صناجة العرب " ، وبرزت في الأدب العربي الجاهلي " ما قبل البعثة " المعلقات وهي احسن وأفضل سبع قصائد قيلت في هذا العصر ، وبعض العلماء يزيدها إلى عشر معلقات ، والحق انها من أروع شعر ذلك العصر الذي على بساطته يعد غريبا ، وما غرابته إلا لعجمة في صدورنا ، والملاحظ أن هذه العجمة تراها فقط في تصويرهم لبيئتهم المادية ، أما تصوير الاحاسيس فغالب الألفاظ دارجة ومعروفة فلو نظرنا إلى قول امرئ القيس :
وليل كموج البحر أرخى سدوله ..... علي بأنواع الهموم ليبتلي
فقلت له لما تمطى بصلبه .... وأردف أعجازا وناء بكلكل
ألا أيها الليل الطويل ألا انجل ..... بصبح وما الإصباح منك بأمثل
فسهل علينا معرفة " الليل " و "موج البحر " "سدوله " التي تعني ستائره ، ويصعب مثلا علينا معرفة " تمطى " والتمطّي هو فعل الإنسان وغيره بعد الاستيقاظ مباشرة ، و " كلكل " يقصد بها صدر الجمل ، لاحظ هنا المعنى المادي خفي علينا قليلا .
والأدب الجاهلي على ضخامته لا يرقى موثقا إلى أكثر من قرنين من الزمان ، وهذا ما يشير إليه الجاحظ في كتابه " الحيوان " ، ثم جاء العصر الإسلامي ، وأسلم بعض الشعراء ، ومات بعضهم على شركه من هنا جاء لفظ المخضرم .
وجدير بالذكر أن لفظ المخضرم يعرف بين علماء الأدب والسيرة ، أما علماء السيرة فيقولون أن " أويس القرني " مثلا ، مخضرم لأنه كان حيا على حياته صلى الله عليه وسلم لكنه لم يره ، فيعد المخضرمون في السير طبقة أعلى شأنا من التابعين ، وأقل قدرا من الصحابة ، رضوان الله على الجميع ، أما في الادب فالشاعر المخضرم هو شاعر عاش زمنين ، ويقصد بهما على وجه الخصوص العصر الجاهلي والإسلامي ، ومن الشعراء المخضرمين كعب بن زهير بن أبي سلمى والحطيئة والنابغة الجعدي وحسان بن ثابت ولبيد بن ربيعة العامري رضي الله عنهم والأعشى .
ويذكر أن هؤلاء المخضرمين كانت لهم مواقف مشرفة في الإسلام ، فحسان بن ثابت شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحب الهمزية الشهيرة ، ومنها :
عدمنا خيلنا إن لم تروها ..... تثير النقع موعدها كداء.
وكعب بن زهير صاحب قصيدة البردة ، والتي استشهد النحاة بخمس وعشرين بيتا شعريا منها ، ومنها
إن الرسول لنور يستضاء به مهند من سيوف الله مسلول .
ولبيد العامري صاحب البيت الجاهلي الذي مدحه الرول صلى الله عليه وسلم في الحديث : "أصدق كلمة قالها شاعر :
ألا كل شيء ما خلا الله باطل ...... وكل نعيم لا محالة زائل " .
ويذكر أنه انقطع عن الشعر بعد الإسلام قائلا :
الحمد لله إذ لم يأتني أجلي ..... حتى اكتسيت من الإسلام سربالا .
ويذكر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استنشده بعض سالف شعره ، فقال : يا أمير المؤمنين قد أبدلني الله به سورتي البقرة وآل عمران فسُرّ بكلامه أيّما سرور ، وأعطاه ألف دينار .
والحطيئة الذي أعلى ببيت من الشعر قدر قبيلة " بنو أنف الناقة " بعد أن كانت تخجل من اسمها فإذا بها تعتز به بعد قوله :
قومٌ هم الأنف والأذناب غيرهم .... فمن يساوي بأنف الناقة الذنبا .
بهذا أيها القارئ العزيز نصل إلى آخر رحلتنا الماتعة في دوحة المخضرمين من الشعراء ، وقد علمنا ما معنى مخضرم ؟ وما الذي استفدناه في دوحة الأدب من مخضرمي الشعراء رضي الله عن المسلمين منهم .