في العقود الأخيرة طرأت العديد من التغييرات الهامة على أنماط حياة الشعوب التي كانت سائدة في العصور السابقة من الوقت، ولقد حدثت هذه التغيرات نتيجة للتطور التكنولوجي الهائل الذي دخل على الإنسانية والعالم. ولقد ظهرت لدينا العديد من المفاهيم والمصطلحات الجديدة التي صارت جزءاً من حياتنا كنتيجة لهذا التطور الذي أصاب البشرية، ومن أبرز هذه المفاهيم والمصطلحات الجديدة التي دخلت على البشرية هو مصطلح العولمة.
تعرف العولمة على أنها إكساب الأشياء المختلفة صفة العالمية، ونشره في كافة أرجاء الكرة الأرضية وتطبيقه في كافة المناطق. وهذه العملية هي التي تعتمد عليها بالدرجة الأولى المؤسسات التجارية المختلفة والمتنوعة من أجل زيادة عائداتها وأرباحها. ومن هنا فقد كانت العولمة الاقتصادية هي العولمة الأوسع انشاراً وتطبيقاً ثم تأتي بعدها باقي أنواع العولمة والتي منها العولمة السياسية والعولمة الثقافية.
تاريخياً كان أول ظهور لمفهوم وتعريف ومعنى العولمة في القرن 19 الميلادي، إلّا أنّ هذه الفكرة الجديدة لم تكن تلق ذلك الاهتمام أو الترحيب الكبير وذلك بسبب الظروف التي كان سكان ذلك العصر يتوفرون عليها، الأمر الذي جعل الجميع يتراجعون عنها. ولكن وبعد فترة من الزمن، وبعد أن تطورت التكنولوجيا بشكل أكبر مما سبق فقد عادت هذه الفكرة إلى الساحة مجدداً، وكان ذلك في أوخر عقد الثمانينيات من القرن العشرين، حيث شهدت هذه الفترة ظهور شبكة الإنترنت التي اكتسحت العالم واكتسحت حياة الناس على مدى عقدين لتصبح جزءاً أصيلاً من حياتهم، فلا يمكنهم ولا للحظة واحدة الاستغناء عن هذه الشبكة الهامة.
في مجتماعاتنا العربية وربما المجتمعات الأخرى المحافظة هناك رفض كبير لهذا المصطلح ولهذه الفكرة، فهذه الدول والمجتمعات تحب الحفاظ على هويتها وخصوصيتها، إلا أن المجتمعات العربية تعاني من مشكلة مستعصية، وهي أنها ترفض الانفتاح على الآخر والتعرف على ما لديه بحجة أن ما لديها يكفي، على عكس ربما المجتمعات الأخرى التي ترفض هذا المفهوم وتعريف ومعنى من أجل التمسك بهويتها، ولكنها في الوقت ذاته تعرف ما لدى الآخر وتسعى لإقامة جسور من التواصل المشترك بينها وبينه منطلقة من أن الإنسان أخو الإنسان وأن لكل إنسان خصوصية يجب على الآخرين احترامها، هذا الأمر جعل مثل هذه الدول محترمة على مستوى العالم. فنحن نرفض العولمة ولا نعرف كيف نتعامل، وفي الوقت ذاته نقبل عليها إقبالاً شديداً وهذا قمة التناقض.
لنوضح ذلك بمثال بسيط، وهو انتشار مطاعم الوجبات السريعة الأمريكية، فبلادنا استقبلت هذه المطاعم منذ فترات بعيدة، ولاقت هذه المطاعم شعبية عالية في مجتمعاتنا ولا زال الناس يرددون أنهم رافضون للعولمة، مع العلم أن الدول الأخرى المحافظة التي تحب إقامة جسور من التواصل بينها وبين الآخرين حجمت من هذه المطاعم وتأخرت في السماح لها بفتح فروع لها على أراضيها. من هنا فإنه يظهر أننا نرفض التواصل المباشر مع الآخرين ولكننا نقبل على كل ما لديهم بالجملة والتفصيل، إلى درجة أصبحت فيها حياتنا مفتقدة للأجواء العربية الأصيلة، أما الشعوب الأخرى فهي تعرف ماذا ستقبل من الآخر وماذا سترفض وأيضاً هي تعلم أن مستقبل البشرية والإنسانية هو بالتواصل والتعارف بين البشر جميعهم مهما كانت انتماءاتهم وأعراقهم ومللهم ومعتقداتهم.