الشاعر الذي هجا نفسه وأمه وزوجته
شكّل الشعر بالنسبة للعرب أيّام الجاهليّة، صنعةً يمجّدون بها ويتفاخرون بها، إلاَّ أنَّ الأمر لم يخلُ من وجود بعض الشعراء الذين امتهنوا الشّعر كوسيلة للعيش، يسترزقون منه ويبنون أمجادهم، على حساب هجاء الناس ومدحهم، فعُرف الكثير من الشعراء بإتقانهم لهذا الفنّ المُفرح تارة والمُحزن تارةً أخرى، والذي كان يُشكّل قلقاً للممدوح خوفاً من انقلاب الشّاعر عليه وهجائه لاحقاً.
الحطيئة
لعلَّ من أبرز تلك الزمرة من الهجّائين بشّار بن برد وجرير والحطيئة الذي لم يتوانَ عن هجاء نفسه ووالدته وزوجته بقصائد مدهشة في التعابير، برغم عدم تفوّهه بكلام دنيء أو قذر. الحطيئة هو الشّاعر جرول بن أوس بن مالك العبسي ويُكنّى بأبي مُلَيْكة، أمّا لقبه بالحطيئة فإنّه يعود لقصر قامته الملفت وتقزّمه.
النسب
يعود نسبه إلى مضر بن نزار، وقد جاء على لسان أبي الفرج الأصفهاني في كتابه الشهير الأغاني، بأنّ الحطيئة هو من أبناء الزنا، فوالده يُدعى أوس بن مالك، وأمّه تُدعى الضراء وهي أمَة.
مما لا شكّ فيه بأنّ الحطيئة ونظراً لكون والدته غير حرّة، حرمه هذا الأمر من شرف الافتخار والتباهي بنسبه وبمولده، إلاَّ أنّه كان يحاول الاعتزاز والتشبّث بنسبه العريق لأبيه، وكلُّ مساعيه التي بذلها لكي يلتحق بإخوته لم تجدِ نفعاً، إذ نبذوه إخوته وتبرؤوا منه، فقام بهجائهم بقصائد عديدة، ورحل عنهم.
الشعر
عُرف عن أغلب الشعراء في ذلك العصر بفروسيّتهم وشهامتهم، ومفاخرتهم بكلّ ما يتقنون من حسب ونسب ومعارف، إلاَّ أنّ الحطيئة ونظراً لذمامة وجهه وقبحه وقصر قامته ولسانه الصليت، فإنّه أدرك بأنّه لن يستطيع إلاّ أن يصنع مكانةً لنفسه عبر الشعر الذي يتقنه.
لقد تربّى هذا الشّاعر وهو في حالة سخط من زمنه وقدره، فتجرّد من عواطفه ومن حميمته لقبيلته، فبات يتنقّل بين القبائل، فتارة ينتسب لقبيلة بني أبيه، وتارة أخرى لقبيلة أمه وأخواله، ليفقد بذلك روح الحياء والعصبيّة التي يفتخر بها العرب، فتدافع إلى القبيلة التي يكتسب منها المنفعة، وبذلك عمد إلى المدح الذي أكثر منه وأفرط في مدح من لا يستحقّ، مقابل العطايا التي كانت تُغدق عليه، لئلاَّ ينقلب مديحه هجاءً ويُصيب الممدوح أسوأ عبارات وكلمات وعبارات القدح والذمِ والهجاء التي اشتهر بها أيضاً، ولذلك فقد كان الناس يخافون من لسانه ويتحاشونه.
تذكُر المصادر بأنّ الحطيئة قد تزوّج بأم مُليكة، وأنجب منها العديد من الأولاد، وبالرّغم من سلوكه الجشع في التعامل مع الناس، وبالرّغم من مسارعته على الدوام للتشفّي والانتقام من الناس، إلاَّ أنّه كان كثير العطف والمحبّة لزوجته ولأولاده أيضاً، وقيل بأنّه كان بسبب حرمانه من العطف والكره الذي لاقاه في حياته، أغدق كلّ عطفه وحنانه على عائلته كما لم يفعل رجل.
لكنّه وبرغم حبّه الكبير لعائلته، لم يستطع إلاَّ أن قام بهجاء زوجته عند أوّل مناسبة رآها تستحق الهجاء، ليغلب بذلك طبعه على محبّته، كما هجا والدته من قبلها في عدّة مناسبات، وهجا نفسه في أبياتٍ شعريّة مختلفة. توفّي الحطيئة عام ستمئة وخمسين للميلاد، الموافق عام ثلاثين للهجرة.
الأعمال
يُذكر أنّ للشاعر الحطيئة ديواناً شعريّاً، جُمعت فيه معظم قصائده التي نظمها في المديح وأيضاً في الهجاء، إضافة إلى قصائد الفخر، طُبع لأوّل مرّة عام ألف وثمانمئة وتسعين للميلاد في القسطنطينيّة، وطبع للمرة الثّانية عام ألف وثمانمئة وثلاثة وتسعين للميلاد في ليبسيك، وأُعيد طبعه للمرة الثالثة عام ألف وتسعمئة وخمسة للميلاد في مصر.