لا بد أنّه قد سبق لك أن استلقيت في ليلة صافية صيفيّة هادئة ثم رفعت ناظريك ببطئ إلى السّماء ثم مالبثت أن أطلقتهما مستمتعاً بذلك المنظر المذهل الخلاّب، وربما تكون قد اكتفيت بذلك، أو أنّك قد تجاوزته إلى طرح السؤال الكبير " ما فائدة النجوم؟! "
ومما لا شك فيه أنّ هذا السؤال سيقودنا إلى التفكّر في هذا المشهد ؛ فما نشاهده نحن على أنّه ملايين النّقاط الصّغيرة البيضاء المنثورة كالدرر في الفضاء تعرف ما هو إلا أجرام ضخمة لكتل هائلة ملتهبة تبعد عنّا مسافات شاسعة؛ وهو ما سيقودنا بدوره إلى التفكّر بعظم خالق هذا المشهد، لكن هل يمكن لهذا الخالق العظيم أن يُوجد كل ذلك عبثاً؟! حاشا وكلّا بل لا بد لخلق عظيم كهذا من حكمة عظيمة لوجوده، فما فائدة النجوم؟
فلا شك ولا ريب أنّ من أظهر هذه الفوائد ذلك المنظر الخلاب الذي ينتج عن انتثارها وتبعثرها في جو السماوات؛ مما يضفي عليها رونقاً رائعاً ويضيف للناظر إليها شعوراً مذهلاً لا يجده في غيرها، وهذا أوّل حكم الخالق العظيم -سبحانه وتعالى- من خلق النّجوم وتأمّل في قوله قال تعالى: ((وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ))سورة تبارك، تجد فيه دليل صريحاً على ذلك، كما أنّ في الآية السابقة دليل على فائدة أخرى من فوائد النجوم فهي كذلك رجوماً للشياطين قال تعالى: ((وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا، وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا)) سورة الجن
وأمّا الفائدة الثالثة فهو ما يتعلق بما يسمى بعلم التسيير؛ فالعلوم التعلّقة بالنجوم تنقسم إلى قسمين: قسم جائز وقسم محرّم شرعاً؛ فأمّا القسم الجائز فكما ذكرنا سابقاً أنّه يسمى بعلم التسيير: "وهو الَّذي يُعلم به الحساب، وتُعلم فيه منازل الزِّراعة، ويُعرف به الطَّريق في ظلمات البرّ والبحر، ويُعرف به الأوقات" -1- ومن الأمثلة على ذلك أيضأ الاستدلال بالنجوم على أوقات البذر وغرس الأشجار، والاستدلال على الجهات كالاستدال على جهة القبلة وكذلك تمييز الفصول الأربعة وتمييز الأوقات بشكل عام، وكذلك تمييز مواقع البلدان والمياه وغير ذلك...
ومن الأدلّة على ذلك قوله عز وجل : (( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ))سورةالأنعام، وقوله سبحانه: (( وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ)) سورة النحل، والأدلة على مثل ذلك كثيرة في القرآن الكريم.
وأمّا القسم المحرم شرعاَ من علوم النجوم، فهو ما يسمى بعلم التأثير:"والمراد به الاستدلال بالأحوال الفلكيَّه على الحوادث الأرضيَّة" -1-
ومن الأمثلة على ذلك ما يسمى بعلم التنجيم، وهو ادّعاء لعلم الغيب، فمن أهل هذا العلم من يدعي أن الأحوال الفلكية تؤثر بالحوادث الأرضية بذاتها وهذا شرك وكفر بالله عز وجل، ومنهم من يزعم أنها إنما تؤثر في الحوادث الأرضية بمشيئة الله وقدرته وهذا أيضاً حرام وباطل ولا دليل عليه، وهو من الادعاء بعلم الغيب، قال تعالى في سورة النمل: ((قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ)) وقال سبحانه((وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ))سورة الأنعام، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (( من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد)) صحيح الجامع، وقال صلى الله عليه وسلم: ((من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة)) أخرجه مسلم في صحيحه
فهذا ما يتعلّق بفوائد النجوم وعلومها والعاقل من يأخذ ما يفيده ويدع ما يضره ولا ينفعه، وختاماً تأمل أخي القارئ بقول الإمام والصحابي الجليل علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- :"أُحَذِرُكُمْ عِلْمَ اَلنُّجُومِ، إِلَّا مَا يُهْتَدَى بِهِ فِي ظُلُمَاتِ اَلْبَرِّ وَالْبَحْرِ، فَإِنَّ اَلْمُنَجِّمَ كَالسَّاحِرِ، وَالسَّاحِرُ كَاهِنٌ، وَالْكَاهِنُ كَافِرٌ، وَالْكَافِرُ فِي اَلنَّارِ" -2- __________________________________
-1- مستفاد من: شرح الإبانة الصغرى - الدرس 13 | للشيخ: محمد بن هادي المدخلي -2- وهذا عند الحارث بن أبي أسامة في "مسنده"، وهو موجودٌ في الجزء المطبوع الَّذي هو "زوائد الحارث بن أبي أسامة على الستة". وطُبع في الجامعة الإسلامية وهو موجودٌ في "زوائد مسند الحارث" برقم: (564)، موجودٌ في "الباحث عن زوائد الحارث" للحافظ نور الدِّين الهيثميّ. فهذا الأثر عن عليٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - موجودٌ فيه برقم: (564).