قَضَتْ في الصّبا النفسُ أوطارَها ... وأبلغها الشيبُ إنــــذارها
نَعَــمْ وأُجِيـلَتْ قِــداحُ الهــــــوَى ... عليها فتقسّمنَ أعشارها
يبدو أنَّ الشّاعر -في البيتين السّابقين- مُثْقلٌ بالذّكريّات التي تُلحُّ عليه وقد اصطلى بأوار الغربة والحنين، فمن هو ذلك الشّاعر المعذّب؟
إنَّه عبد الجبار بن أبي بكر بن محمد بن حمديس الأزدي الصقلي، وهو شاعر مبدعٌ متألّق، رأتْ عيناهُ النّورَ عام (447 هـ- 1053م)، في جزيرة صقليَّة، وفي عام (471هـ) ألقى (النّورمان) القبض عليه، ممّا جعله يفكّر في الهجرة إلى بلاد الأندلس، وهناك مدح المعتمد بن عباد، وانتهى به المطاف -بعد الجزائر- في إفريقيا عام (516 هـ)، واشتاق إليه ربّه؛ فانتقل إلى جواره عام (527 هـ - 1133م)، حيث سُجّيَ جسدهُ تراب جزيرة (ميورقة)، وقد بلغ من العمر ثمانين عامًا، بعد أن فقد نعمة البصر.
تحدّثنا كتبُ الأدب أنَّ ابن حمديس تربَّع على عرش الشّعر بعد أن ركب معظمَ بحوره، وقد أجاد في فنّ التصوير الشعريّ، معتمدًا في ذلك على حسّه المرهف، وسليقته الشفّافة، فضلًا عن غزليّاته ورثائياته التي كانت جنبًا إلى جنب مع بقيَّة الأغراض الشعريَّة من مدحٍ وحكمةٍ وزهد، ولكن على الرغم من تألّقه في العديد من الأغراض الشعريَّة إلّاّ أنّّه كان أكثر تألقًا في الغربة والحنين إلى مسقط رأسه صقلية، فقد ظلَّت الغربةُ تنخرُ في عظامه؛ حتّى جرَّعته كأس الحنين دمًا عندما اجتاحته أنباء ضياع الوطن، ممّا صَهَرَ الألم في بوتقة نفسه المعذبة، وما زاد النفسَ مرارةً وحسرةً هو فقده الأمل في العودة إلى وطنه الأم، فكم مرةً بكى الشّاعر شعبه وبلاده بكاءً حارًا بأشعارٍ تذيب القلوب كَمَدًا، كيف لا وقد اغتصب العدوّ (النورماندي) أرضه، فترنّح الوطنُ السّليب، وبكتِ الأرضُ والسهول والجبال والأغادير، وتشرذم الأهل، فلا مأوى لهم إلّا السّماء يلتحفونها، والأرض يفترشون ترابها، والعراء يتدثرون بصقيعه القاتل، والصّحراء تلفح وجوههم نيرانُها اللاّهبة.
بدأت بواكير الشعر عند الشاعر ابن حمديس في صقلية إبّان الصبا، فجمع في شعره بين سطوة الحبّ وشهوة الحرب، ويقول في مطلع قصيدةٍ له:
قلب من جامد الصخر أقسى ... وهو من رقة الـنـسـيم أرق
وقد كان الشّاعر يكثر من الفخر بقومه "بني الثغر"، نقرأ ذلك في قوله:
ومتخذي قمصَ الحديد مـلابـسـًا ... إذا نكَّل الأبطال في الحرب أقدموا
كأنهم خاضـوا سـرابــــــًا بـقـعـــة ... ترى للدبا فيهـــا عيونـــــًا عـلـيـهم
صبرنا بهم صبر الكرام ولم يسـغ ... لنا الشهد غلا بعد ما ساغ علـــــــقـم
ولا يزال الحنين يرافق الشاعر حتّى في قصائد الفخر والحماسة، فها هو يذيّلها بصرخةٍ حنينٍ نابعةٍ من فؤاد حفرت في حناياه الغربة أخاديد حتّى الوريد:
أحنّ إلى أرضى التي في ترابها ... مفاصلُ من أهلي بَلَيْنَ وأعظـمُ
كما حنَّ في قيد الدجى بمضـلة ... إلى وطن عوْدٌ من الشوق يرزمُ
ولعلَّ ما ذكرناه هو أقلُّ القليل فيما يُمْكِنُ أنْ يُقال في شاعر الفردوس المفقود، الذي أحبَّ وطنه حبًا جمًّا؛ فجاءت أشعارهُ صرخاتٍ مدويَّة مِن نَفسٍ شاعرةٍ، فلَمْ يَبْقَ أمام الوطن إلّا أن يصغي لصوت الشّاعر.