لقد سبقَ كتاب "أرسطو" في فنّ الخطابة الذي يعتبر أول كتابٍ في هذا الصدد، دعوةُ القرآن الكريم لفصل الخطاب، في سياق الحديث عن النبيّ داوود عليه السّلام، وتمجيد الإسلام لفصاحة خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، فالخطابةُ إذن هي أول ركائز التّواصل البشري داخل المنظوماتِ الواحدة، حتى أصبح فنًّا يتم تدريسه والتدريب عليه.
حين نتحدث عن فنّ الخطابة فإننا نعني بذلك الممارسة على المشافهة ومواجهة الجمهورِ وجهاً لوجه، من خطيبٍ يتمتّع بأكثر من سمةٍ شخصية، يدعوهم لفكرةٍ ما، ذلك في إطارٍ معيّن. وقد يُشترطُ في هذه الآليّة الفنّيةِ خمسةُ أركان، إذا سقطَ أو تغيّب شيءٌ منها يختلّ وصفها بالخطابة، وهي عبارة عن جمهورٍ حاضرٍ يستمع، وخطيبٍ يؤدّي فيهم مادّته المطروحة، والخطبة ذاتها وهي عبارة عن سلسةٍ من الأفكار، والتأثير ونتائج بهؤلاء الحضور وجذب مسامعِهم، فإن تغيّب الجمهور مثلاً تحوّلت الخطبة إلى حديثٍ أو وصيّة، وإذا افتقدَ عنصر التأثير ونتائج فقد فقدَ فائدةَ وجدوى الخطبة، وأما الخطيب والمادة فإنها أساسُ ذلك الأول.
تهدفُ الخطبةُ في العادة إلى حث الناس على القيمِ النبيلةِ، وتنويرهم وتنبيههم إلى الواقعِ الذي يعيشونهَ لصياغته في مستقبلٍ مشرق، وتنفيرهم من الأعمالِ السّيئة، التي قد تودي برقيّ المجتمع، وإقناعهِم بالحقائقِ التي يترتب عليها جودةُ تربية الفردِ والمنظومة كلّها.
إن الخطيب الذي من الممكن اعتباره خطيباً نموذجيّاً قادراً على أن يخوضَ هذا الفنّ وينجحُ في عمليةِ التواصل المباشر، هو الخطيب العالم بما يقول، المتمكّن مما يدعو إليه، الذي يسخّرُ لغةَ الجسدِ في التعبير، والذي يمتلكُ حجّةً وقدرةً على الإقناعِ والتفهيم، سائقاً مع ذلك بعض التجاربِ والأدلّةِ والبراهين، إضافة إلى صدقِه وثقتِه بنفسه وبما يقول، ومراعاتِه للجمهور الذي يستمع إليه، وتوزيع نظراتِه على كافّة الحضور بشكلٍ عام. وقد تتمثّلُ مراعاةُ الخطيب للجمهور، في الانتباه لاختلافِ مستوياتِهم في الإدراك، وفروقهم في الاستيعاب، فلا يحقّ أن يقتصرَ على أسلوبٍ دون الآخر، وأن يلتفت إلى المشكلةِ التي يعانون منها في الغالب، كتفشي ظاهرة السّرقة مثلاً ، وألّا يتوجّه بالإيذاء إلى أحدٍ منهم ، كالتّلميح على أحدهم، واستحضار أن هذا الجمهور فيه من يعرف ومن لا يعرف، وألّا يكرّر كلاماً مبتذلاً ، أي يضيفَ لهم بعض الجديد، وأن يستميلهم إلى جانبه، ويحبّبهم في أسلوبه وطريقتِه ومنهجه، لا أن يُبعدَهم عنه دون أن يشعر.
إن فن الخطابة تم تدوينه لأوّل مرةٍ عند اليونانيين، إلا أن العربَ قد برعوا فيه أكثر، فهو سمةٌ من أهم سماتِ رجالِهم ونسائهم، فكلّما أرادوا التهنئةَ أو الفخر أو الرثاء سخّروا خطباءهم وشعراءهم، ولكن من الجديرِ الذكر أنّ هناك من الخطب ما تنحرفُ عن هذه الجدوى النافعة، وتُستخدمُ للتحريض وإثارة الفتن، وتبالغُ في إثارةِ المشاعر وتجييشِ العاطفة، فينقصُ من شأن الخطيب والجمهور.