العقل
هو الميّزة التي ميز الله بها الإنسان عن سائر الخلق، وهو بالتالي الميّزة التي تجعل الإنسان مُكلّفاً؛ فخطاب التكليف كما نعلم قد نزل على العقلاء من البشر؛ لأنّ الفكرة من التكليف هي أن يميّز الإنسان بين الخطأ والصواب، ثم يختار الصواب، وبعد ذلك يُجزى على اختياره، في حين أنّ الحيوانات مثلاً لا تميز الخير والشر وبالتالي لا تختار أياً منهما، بل تسير على الغريزة من دون طلب للصلاح أو الفساد ولا تُحاسب.
يتبيّن ممّا سبق أنّ للعقل أهميّة كبيرة في الإسلام، فإذا كان الإسلام رسالةً؛ فالعقل هو السبيل لإدراكها، ومن دونه لن يكون للرسالة معنى، كأن تنزل على غير العقلاء من المجانين أو الأطفال الصغار، أو على الحيوانات أو الجمادات.
الإسلام دين، والدين الخُلق، وبما أنّ الدين الخُلق، فيجب أن ننتبه إلى مفهوم وتعريف ومعنى الخُلق، فالخُلق هو (اختيارٌ واعٍ) للخير، وهو أيضاً (طلبٌ واعٍ) للصلاح، وهو - أي الخُلق - ليس من الغريزة فلا يأتي من دون تفكير ومن دون اتخاذ قرارٍ واعٍ، وكما تعلم إذا كنت مُخيّرا في شيء فأنت مُحاسبٌ عليه ومسؤولٌ عنه، وأما إذا كنت مُسيّراً فيه فلن تُحاسب عليه ولن تُكلف به، وبالتالي تكون أهميّة العقل في الإسلام في القدرة على (الاختيار).
يقول البعض إنّ الخلق لا يأتي من التفكير الواعي؛ بل هو صادر بشكل طبيعي من النفس، ولكن لا يمكن أن نُنكر أنّ الخُلق بطبيعته (إنساني) ولا يمكن لجماد أو حيوان أن يتحلّى به، قد يتحلّى بصفات ومقاييس معيّنة ولكنها ليست أخلاقاً، فحتّى يكون خُلقاً يلزمه الإدارك، والإدراك لا يكون بغير العقل. فطلب الصلاح أو طلب الفساد مسألة تخص الإنسان؛ فالحيوانات لا تقوم بأفعال تطلب من خلالها الخير أو الشر، بل تطلب البقاء فقط. واسأل نفسك هل يمكن أن يتحلّى غير العاقل بالأخلاق؟
مسألة العقل والأخلاق كبيرة جداً وقد تكون معقّدة ومُختلفٌ فيها، ولكن ما لا يُختلف عليه: أنّ الأخلاق (إنسانية)؛ أي تخص الإنسان دون غيره من المخلوقات، وكذلك العقل (إنساني) يخصّ الإنسان وحده.
تذكّر أول كلمة نزل بها القرآن الكريم "اقرأ"، وهي أمر لإعمال العقل والتفكّر؛ حيث لا تدلّ على القراءة العادية لحروف وكلمات وعبارات وسطور، وإنّما تدل على (الإدراك)، فقرأ الشيء بمعنى فهمه أو أدركه أو حلّله (وهذا هو المعنى الأشمل للفظة "اقرأ")، وقراءة الكلمات وعبارات هو فهم وتحليل تلك الأشكال المرسومة على الورق وإدراكها؛ بحيث تصبح ذات معنى مفهوم وتعريف ومعنى ومميّز. وأمر القراءة هنا "اقرأ" جاء لتحرير العقل من الخرافات وممّا كان سائداً من التقليد الأعمى للآباء والأجداد، فهو أمر بالتحرّر، وباعتناق قوّة التمييز والإدراك وبالتالي قوّة الاختيار.
تذكّر أيضاً المعجزات السابقة التي جاءت للأقوام السابقين، ولاحظ أنّها معجزات (حسية) أو مادية، مثل خروج الناقة من الصخر أو انفلاق البحر وغيرها، أما معجزة الإسلام الكبرى، الرسالة التي حملها محمّد صلى الله عليه وسلم، فكانت (عقلية) ولم تكن حسية، فقد جاءت لتحرير العقول وتدعوا الناس للتفكّر في الخَلْق حتى يجدوا الحقّ بأنفسهم ويدركوه بعقولهم وليس بأسماعهم أو أبصارهم؛ كالمعجزات الماديّة، وهي بذلك كانت بداية عصر جديد وأمّة جديدة تقرأ وتفكّر وتدرك. وتكمن أهمية وفائدة العقل بأنّه الأداة التي تدرك بها المعجزة، وبالتالي تُدرك بها رسالة الإسلام.
أخيراً، أودّ إيضاح نقطة مهمة فيما يخص العقل وطلب الصلاح، وهي أنّ طلب الصلاح وإن كان يعتمد بشكل كبير على الإدراك الواعي، بالتالي على العقل، فهو يعتمد أيضاً على القلب؛ لأنّ هناك أموراً وفضاءاتٍ يعجز الإنسان عن إدراكها بالعقل وحده، فإذا كان (الاختيار) -بين الخير والشر - يعتمد على العقل فإنّ الإيمان يعتمد على القلب، الإسلام أولى أهميّة للإنسان بمجموعه غير المنفصل من قلب وعقل وجسد وروح.