كانت حياة النّبي محمّد عليه الصّلاة والسّلام حافلةً بالأحداث والمواقف النّبويّة العطرة، كما حصلت عددٌ من المعارك والغزوات في عهد النّبي الكريم، ولقد شكّلت حياة النّبي منذ مولده ثمّ بعثته إلى وفاته سيرةً غنيّة بالكثير من الأقوال والأفعال والمواقف التي أصبحت مرجعاً للمسلمين من بعده، وقد تصدّى عددٌ من العلماء لمهمّة جمع سيرة النّبي عليه الصّلاة والسّلام حتّى تكون متاحة للمسلمين على مرّ الأيام، فمن هو أوّل من كتب في السّيرة النّبويّة من العلماء؟
يعتبر محمّد بن اسحق بن يسار بن خيار القرشي الذي ولد سنة 80 هجرية أوّل من كتب في السّيرة النّبويّة الشّريفة، ولقد أبدى ابن اسحق اهتمامه بالسّيرة النّبويّة منذ صغره، ولقد رأى محمد بن اسحق أنس بن مالك والتّابعي سعيد بن المسيّب وسالم بن عبد الله بن عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنهما، وقد لازم المدينة المنوّرة فترةً من الزّمن يسمع روايات النّاس فيها عن سيرة النّبي عليه الصّلاة والسّلام، وقد بذل في سبيل جمع السيرة جهداً كبيراً حتّى أثنى عليه الكثير من العلماء منهم الشّافعي والبخاري، حتّى لقب بأمير المؤمنين في الحديث، كما اشتهر بجمع الأخبار عن مغازي النّبي عليه الصّلاة والسّلام حتّى قيل إنّ كلّ الذين سيكتبون المغازي سيكونون عيال على محمّد ابن اسحاق نظراً لأنّه أوّل من كتب عن مغازي النّبي وأفرد لها كتاباً ولكنّه لم يصل، كما أنّ سيرته عن النّبي الكريم والتي سمّيت بسيرة رسول الله لم تصل إلى وقتنا الحاضر ولكن العلماء انتفعوا منها حتّى عصور متأخّرة، وقد رحل محمّد بن اسحق إلى العراق ورعاه الخلفاء العباسيين وعلى رأسهم أبو جعفر المنصور الذي كلّفه بكتابة المغازي.
لقد كان منهج محمّد بن اسحاق يعتمد على جمع الرّوايات من غير سند، فقد كان همّ ابن اسحق أن يجمع كلّ ما ورد عن النّبي عليه الصّلاة والسّلام من مواقف وأحداث وتفاصيل تلقّاها عن كثيرٍ ممّن عاصر عهد الصّحابة أو أدرك التّابعين، وقد جمع كثيراً من الأخبار عمّن أسلم من علماء أهل الكتاب مثل كعب الأحبار وغيره، ولقد كانت هذه الملاحظات على سيرة ابن اسحق حافزاً للمؤرّخ عبد الملك بن هشام الذي قام بتهذيب هذه السّيرة وحذف الكثير من القصص والأخبار التي لم يرد فيها ذكر النّبي عليه الصّلاة والسّلام، كما حذف كثيراً من الأشعار التي لم يسمعها عن أحدٍ من الشّعراء أو المهتمين بالشّعر، ولقد تلقّى ابن هشام سيرة ابن اسحق عن طريق تلميذه زياد البكّائي، ولقد توفي ابن اسحق عام 151 هجريّة بعد رحلةٍ حافلة بالعطاء والعلم، وحفظ التّاريخ اسمه كواحد من أهمّ كتّاب السّير والمغازي.