الرّثاء
يعتبر الرّثاء أحد موضوعات الشّعر العربي الأساسيّة، بل إِنّه يتصدّرها من حيث صدق التّجربة، وحرارة المشاعر، ودقّة التّصوير، ويحتفظ أدبنا العربي بتراثٍ ضخم منذ الجاهلية إلى يومنا الحاضر.
ينقسم هذا التّراث إِلى ثلاثة ألوان هي: النّدب، والتأبين، والعزاء، هذه الألوان من فن الرّثاء لا تفصلها حدود، ولا يقوم منها لون دون الآخر، ولكن إذا غلب منها لون على الآخر أعطى العمل الفنيّ طابعه العام، ووسمه بيسمته الخاصّة، إلّا أن كثيرًا ما تتداخل تلك الألوان معاً ضمن عمل أدبيّ واحد، لاسيّما في رثاء الملك والدّول، والعهود المجيدة من تاريخ الأمّة.
قصائد رثاء
من بعض قصائد الرّثاء، ندرج بعضاً منها هنا:
اِن سالَ مِن غَرب العُيونِ بُحور
عائشة التّيمورية
اِن سالَ مِن غَرب العُيونِ بُحور
فَالدَّهرُ باغ وَالزَّمان غَدور
فَلِكُلِّ عَين حَق مدرار الدِّما
وَلكل قَلب لَوعَة وَثُبور
سَترالسنا وَتحجبت شَمسُ الضُّحى
وَتَغيبت بَعد الشُروق بدور
وَمَضى الذي أَهوى وَجرعني الأسى
وَغَدَت بِقَلبي جذوة وَسَعير
يا لَيتَهُ لِما نَوى عهد النَّوى
وافى العُيون مِنَ الظَّلام نَذير
ناهيكَ ما فَعَلت بِماء حَشاشَتي
نار لها بَينَ الضُّلوعِ زَفير
لَوبث حزني في الوَرى لَم يَلتَفِت
لِمُصاب قيس وَالمُصاب كَثير
طافَت بِشَهر الصَومِ كاساتِ الرَّدى
سِحراً وَأَكوابُ الدُّموعِ تَدور
فَتَناوَلَت مِنها اِبنَتي فَتَغَيَّرَت
وَجناتُ خد شانِها التَّغيير
فَذَوَت أَزاهيرُ الحَياةِ بِرَوضِها
وَاِنقَدَّ مِنها مائِس وَنَضير
لَبِسَت ثِيابَ السَقمِ في صغر وَقَد
ذاقَت شَرابَ المَوتِ وَهُوَ مَرير
جاءَ الطَّبيبُ ضَحى وَبشر بِالشَّفا
اِنَّ الطَّبيبَ بِطِبِّهِ مَغرور
وَصف التَّجرع وَهُوَ يَزعُم إِنَّهُ
بِالبِرء مِن كُل السِّقامِ بَشير
فَتَنَفَسَّتُ لِلحُزنِ قائِلَة لَهُ
عَجِّل بِبِرئي حَيثُ أَنتَ خَبير
وَاِحمِ شَبابي اِن والِدَتي غَدَت
ثَكلى يَثير لَها الجَوى وَتَشير
وَاِرأَف بِعَين حَرمت طيب الكَرى
تَشكو السُّهاد وَفي الجُفونِ فُتور
لِما رَأَت يَأسَ الطَّبيب وَعَجزِهِ
قالَت وَدَمع المُقلَتَين غَزير
أَماه قَد كل الطَّبيب وَفاتَني
مِمّا أؤمل في الحَياةِ نَصير
لَو جاءَ عراف اليَمامَةِ يَبتَغي
برئى لِرد الطَّرف وَهُوَ حَسير
يا رَوعَ روحي حلها نَزع الضَّنا
عَمّا قَليل وَرقها سَتَطير
أَماه قَد عَز اللُّقا وَفي غَد
سَتَرينَ نَعشى كَالعَروسِ يَسير
وَسَيَنتَهي المَسعى اِلى اللَّحدِ الذي
هُوَ مَنزِلي وَلَهُ الجُموعُ تَصير
قولى لِرب اللَّحد رفقا بِاِبنَتي
جاءَت عَروساً ساقَها التَّقدير
وَتجلّدي بِاِزاء لَحدى بُرهة
فَتَراكَ روح راعِها المَقدور
أَمّاه قَد سَلَفت لَنا أُمنِيَة
يا حُسنِها لَو ساقَها التَّيسير
كانَت كَأَحلامٌ مَضَت وَتَخلفت
مُذ بانَ يَومُ البينِ وَهو عَسير
عودى إلى رُبعِ خَلا وَمَآثِر
قَد خَلَفَت عَنّي لَها تَأثير
صونى جِهازَ العُرسِ تِذكارا قَلى
قَد كانَ مِنهُ اِلى الزَّفافِ سُرور
جَرَت مَصائِبُ فَرَّقَتى لَكَ بعدذا
لَبس السَّواد وَنفذ المَسطور
وَالقَبرُ صارَ لِغُصن قَدى رَوضَة
ريحانُها عِند المزار زُهور
أَماهُ لا تَنسى بِحق بنوتى
قَبري لَئِلّا يَحزن المَقبور
فَأَحيَيتُها وَالدَّمعُ يَحبِسُ مَنطقى
والدّهر من بعد الجوار يجور
بِنتاه يا كَبدي وَلَوعَة مُهجَتي
قَد زالَ صَفو شانِه التَّكدير
لا نوصى ثَكلى قَد أَذابَ وَتينُها
حُزن عَلَيكَ وَحَسرَة وَزَفير
قَسماً بِغض نَواظِر وَتَلهفى
مُذ غابَ إنسان وَفارِق نور
وَبِقُبلَتي ثَغرا تَقضى نَحبه
فَحَرَمت طيب شَذاهُ وَهُوَ عَطير
وَاللَهُ لا أَسلو التِلاوَةِ وَالدَّعا
ما غَرَّدَت فَوقَ الغُصونُ طُيور
كَلا وَلا أَنسى زَفير توجعي
والقَدّ مِنكَ لَدى الثَّرى مَدثور
إنّى أَلفت الحُزنَ حَتّى إِنَّني
لَو غابَ عَنّي ساءَني التَّأخير
قَد كُنتُ لا أَرضى التَّباعُد بُرهَة
كَيفَ التَّصَبُّر وَالبِعادُ دُهور
أَبكيكَ حَتّى نَلتَقي في جنّة
بِرِياض خُلد زينَتُها الحور
إن قيلَ عائِشَة أَقولُ لَقَد فَنى
عيشى وَصَبري وَالإله خَبير
وَلَهى عَلى تَوحيدِهِ الحُسنِ الَّتي
قَد غابَ بَدر جَمالِها المَستور
قَلبي وَجِفني وَاللِّسانُ وَخالِقي
راض وَباكَ شاكِر وَغَفور
مَتعت بِالرِّضوان في خُلد الرِّضا
ما اِزينت لَكَ غُرفَة وَقُصور
وَسَمِعتُ قَولَ الحَقِّ لِلقَومِ اِدخُلوا
دارَ السَّلامِ فَسَعيُكُم مَشكور
هذا النَعيمُ بِهِ الاِحبَّة تَلتَقي
لا عَيشَ اِلّا عيشه المَبرور
وَلَكَ الهَناءُ فَصدق تاريخي بَدا
تَوحيدُهُ زَفت وَمَعَها الحور
رثاء شعب
محمد محمود الزّبيدي
ما كنتُ أحسِبُ أنّي سوفَ أبكيهِ
وأنّ شِعْري إلى الدّنيا سينعيهِ
وأنني سوف أبقى بعد نكبتهِ
حيّاً أُمزّق روحي في مراثيه ِ
وأنّ من كنتُ أرجوهم لنجدتهِ
يومَ الكريهةِ كانوا من أعاديهِ
ألقى بأبطاله في شرّ مهلكةٍ
لأنّهم حقّقوا أغلى أمانيهِ
قد عاش دهراً طويلاً في دياجرهِ
حتّى انمحى كلُّ نورٍ في مآقيهِ
فصار لا اللّيلُ يُؤذيه بظلمتهِ
ولا الصّباحُ إذا ما لاح يهديهِ
فإن سلمتُ فإنّي قد وهبتُ لهُ
خلاصةَ العمرِ ماضيه، وآتيهِ
وكنتُ أحرص لو أنّي أموت لهُ
وحدي فداءً ويبقى كلُّ أهليهِ
لكنّه أَجَلٌ يأتي لموعدهِ
ما كلُّ من يتمنّاه مُلاقيهِ
وليس لي بعده عُمْرٌ وإن بقيتْ
أنفاسُ روحيَ تفديه، وترثيهِ
فلستُ أسكُنُ إلا في مقابرهِ
ولستُ أقتاتُ إلا من مآسيهِ
وما أنا منهُ إلا زفرةٌ بقيتْ
تهيم بين رُفاتٍ من بواقيهِ
إذا وقفتُ جثا دهري بكَلْكَلِهِ
فوقي وجَرّتْ بيافوخي دواهيهِ
وإن مشيتُ به ألقتْ غياهبُهُ
على طريقي شِباكاً من أفاعيهِ
تكتّلتْ قوّةُ الدّنْيا بأجمعها
في طعنةٍ مزّقتْ صدري وما فيهِ!
أنكبةٌ ما أُعاني أم رؤى حُلُمٍ
سهتْ فأبقتهُ في روحي دواهيه ِ
أعوامُنا في النّضال المرِّ جاثيةٌ
تبكي النّضالَ، وتبكي خطبَ أهليهِ
بالأمسِ كانت على الطّغيان شامخةً
تجلوه عاراً على الدّنيا وتُخزيهِ
وارتاع منها طغاةٌ ما لها صلةٌ
بهم، ولا كان فيهم من تُناويهِ
لكنّهم أَنِسوها شعلةً كشفتْ
من كان عُريانَ منهم في مخازيهِ
فأجمعوا أمرَهم للغدر، وانتدبوا،
لكيدنا كلَّ مأجورٍ، ومشبوهِ
واسْتَكلبتْ ضدّنا آلافُ ألسنةٍ
تسُومُنا كلَّ تجريحٍ، وتَشْويهِ
من كلِّ مرتزقٍ لو نال رشوتَنا
أنالنا كلَّ تبجيلٍ، وتنويهِ
وكلِّ طاغيةٍ لو نرتضي معهُ
خِيَانَةَ الشّعبِ جاءتْنا تهانيهِ
وكلِّ أعمًى أردنا أن نردّ لهُ
عينيه، فانفجرت فينا لياليهِ !
وكلِّ بوقٍ أصمِّ الحسِّ لو نَبَحَتْ
فيه الكلابُ لزكّاها مُزَكيّهِ
وألبّوا الشّعبَ ضدَّ الشّعبِ واندرأوا
عليه من كلّ تضليلٍ وتمويهِ
ياشَعْبَنا نصفَ قرنٍ في عبادتهمْ
لم يقبلوا منكَ قُرباناً تُؤدّيهِ
رضيتَهُمْ أنتَ أرباباً وعشتَ لهم
تُنيلُهم كلَّ تقديسٍ، وتَأليهِ
لم ترتفع من حَضيض الرقِّ مرتبةٌ
ولم تذق راحةً مما تقاسيهِ
ولا استطاعت دموعٌ منكَ طائلةٌ
تطهيرَ طاغيةٍ من سكرة التّيهِ
ولا أصختَ إلينا معشراً وقفوا
حياتَهم لكَ في نُصحٍ وتوجيهِ
نبني لك الشّرفَ العالي فتهدِمُه
ونَسْحَقُ الصَّنَمَ الطاغي فتبْنيهِ
نَقْضي على خصمكَ الأفعى فتبعثُهُ
حيّاً ونُشْعُلُ مصباحاً فتُطْفِيهِ
قَضَيْتَ عُمْرَكَ ملدوغاً، وهأنذا
أرى بحضنكَ ثُعباناً تُربّيهِ
تشكو لهُ ما تُلاقي وَهْو مُبتعثُ الشّـ
ــكْوى وأصلُ البَلا فيما تُلاقيهِ
أحْلى أمانيهِ في الدنيا دموعُكَ تُجْـ
ـريها، ورأسُكَ تحت النّيرِ تُحْييهِ
وجرحُكَ الفاغر الملسوعُ يحقِنُهُ
سُمّاً، ويعطيه طِبّاً لا يداويهِ
فلا تُضِعْ عُمْرَ الأجيالِ في ضعة الشّـ
ــكوى فيكفيكَ ماضيه، ويكفيهِ
فما صُراخُكَ في الأبوابِ يعطفُهُ
ولا سجودُكَ في الأعتاب يُرضيهِ
لا عنقُكَ الراكعُ المذبوحُ يُشْبِعُهُ
بطشاً، ولا دمُكَ المسفوحُ يُرويهِ
فامْدُدْ يديكَ إلى الأحرارِ متّخذاً
منهمْ ملاذَكَ من رقٍّ تُعانيهِ
ماتوا لأجلكَ ثم انبثّ من دمهم
جيلٌ تؤججُهُ الذّكرى، وتُذكيهِ
يعيشُ في النكبةِ الكبرى ويجعَلُها
درساً إلى مُقْبِل الأجيالِ يُمليهِ
لا يقبلُ الأرضَ لو تُعطى له ثمناً
عن نهجه في نضالٍ، أو مَباديهِ
قد كان يخلُبُهُ لفظٌ يفُوه به
طاغٍ، ويخدعُهُ وعدٌ، ويُغْويهِ
وكان يُعْجبه لصٌّ يجودُ لهُ
بلقمةٍ سَلّها بالأمْسِ من فِيهِ
وكان يحتسِبُ التّمساحَ راهِبَهُ الْـ
ـقِدّيسَ من طولِ دمعٍ كان يجريهِ
وكان يَبذُلُ دنياه لحاكِمِهِ
لأنّه كان بالأُخرى يُمنّيهِ
وكان يرتاعُ من سوطٍ يلوحُ له
ظنّاً بأن سلامَ الرقّ يُنجيهِ
واليومَ قد شبَّ عن طوقٍ، وأنضجَهُ
دمٌ، وهزّتْه في عنفٍ معانيهِ
رأى الطغاةُ بزن الخوف يقتلهُ
وفاتهم أن عنفَ الحقدِ يُحييهِ
قالوا انتهى الشّعبُ إنا سوف نقذفهُ
إلى جهنّمَ تمحوه، وتُلغيه ِ
فلينطفئْ كلُّ ومضٍ من مشاعرهِ
ولينسحقْ كلُّ نبضٍ من أمانيهِ
وليختنقْ صوتُهُ في ضجّة اللّهبِ الْـ
أَعْمى وتحترقِ الأنفاسُ في فِيهِ
لِنْشربِ الماءَ دَمّاً من مذابحهِ
ولنحتسِ الخمرَ دمعاً من مآقيهِ
ولنفرحِ الفرحةَ الكبرى بمأتمهِ
ولنضحكِ اليومَ هُزْءاً من بواكيهِ
ولنمتلكْ كلَّ ما قد كان يملكهُ
فنحن أولى به من كلّ أهليهِ
وَلْينسَه الناسُ حتى لا يقولَ فَمٌ
في الأرض ذلك شعبٌ مات نرثيهِ
ويحَ الخياناتِ، مَن خانت ومن قتلتْ؟
عربيدُها الفظّ يُرديها وتُرديهِ
الشعبُ أعظمُ بطشاً يومَ صحوتهِ
من قاتليه، وأدهى من دواهيهِ
يغفو لكي تخدعَ الطغيانَ غفوتُهُ
وكي يُجَنَّ جنوناً من مخازيهِ
وكي يسيرَ حثيثاً صوبَ مصرعهِ
وكي يخر َّوشيكاً في مهاويهِ
علتْ بروحي همومُ الشّعبِ وارتفعتْ
بها إلى فوق ما قد كنتُ أبغيهِ
وخوّلتْني الملايينُ التي قُتِلت
حقَّ القِصاص على الجلاّد أَمْضِيهِ
عندي لشرِّ طغاةِ الأرضِ محكمةٌ
شِعري بها شرُّ قاضٍ في تقاضيهِ
أدعو لها كلَّ جبّارٍ، وأسحبهُ
من عرشه تحت عبءٍ من مساويهِ
يحني ليَ الصنمُ المعبود هامتَهُ
إذا رفعتُ له صوتي أُناديهِ
أقصى أمانيه منّي أن أُجنّبَهُ
حُكْمي، وأدفنه في قبر ماضيهِ
وشرُّ هولٍ يلاقيه، ويسمعهُ
صوتُ الملايينِ في شعري تُناجيهِ
وإنْ يرى في يدي التّاريخَ أنقلهُ
بكلّ ما فيه للدّنيا وأَرويهِ
يرى الذي قد تُوفّي حُلْمَ قافيةٍ
مني فيُمعن رعباً في تَوفّيهِ!!
وليس يعرف أني سوف ألحقهُ
في قبره ازْدادَ موتاً، أو مَرائيهِ
أُذيقه الموتَ من شعرٍ أُسجّرهُ
أشدُّ من موتِ (عزريلٍ) قوافيهِ
موتٌ تجمّعَ من حقد الشّعوبِ على الـ
ـطّغيانِ فازداد هولاً في معانيهِ
يؤزّه في اللّظى غمزي، ويُذهلُهُ
عن الجحيم، وما فيه، ومَنْ فيهِ
سأنبش الآهَ من تحت الثّرى حِمَماً
قد أنضجتْه قرونٌ من تلظّيهِ
وأجمع الدّمعَ طُوفاناً أُزيل بهِ
حكمَ الشّرورِ من الدّنيا وأنفيهِ
أُحارب الظّلمَ مهما كان طابعُهُ الْـ
ـبَرّاقُ أو كيفما كانت أساميهِ
جبينُ (جنكيزَ) تحت السّوطِ أجلدهُ
ولحمُ (نيرونَ) بالسّفود أشويهِ
سِيّان من جاء باسم الشعبِ يظلمهُ
أو جاء من (لندن) بالبغي يَبغيهِ!
(حَجّاجُ حَجّةَ) باسم الشعبِ أطردهُ
وعُنْقُ (جنبولَ) باسم الشّعبِ ألويهِ
رثاء شوقي
إبراهيم ناجي
قلْ للذين بكَوْا على (شوقي)
النّادبين مصارعَ الشُّهبِ
وا لهفَتاه لمصر والشَّرْقِ
ولدولة الأشعار والأدبِ!
دنيا تَفرُّ اليومَ في لحدٍ
وصحيفةٌ طُويتْ من المجدِ
ومُسافرٌ ماضٍ إلى الخلد
سبَقتهُ آلاءٌ بلا عَدِّ
هذا ثَرى مصْرَ الكريمُ، وكمْ
أكرمتَهُ وأشدْتَ بالذّكرِ
يلقاك في عطفِ الحبيبِ فنمْ
في النّور لا في ظُلمةِ القبْر!
كم من دفينٍ رحتَ تحييهِ
وبَعثْتَهُ وكَففْتَ غُرْبَتَهُ
فاحللْ عليهِ مُكرّماً فيهِ
يا طالما قَدَّست تُربتَهُ
يا نازلَ الصّحراء موحشةً
ريَّانةً بالصّمت والعدمِ
سالتْ بها العبراتُ مجهشةً
وجَرت بها الأحزانُ من قدمِ!
هذا طريق قد ألفناهُ
نمشي وراءَ مُشَيَّعٍ غالِ
كم من حبيبٍ قد بكَيْنَاهُ
لم يُمْحَ من خَلدٍ ولا بالِ
وكأنَّ يومَك في فجيعتِهِ
هو أولُ الأيامِ في الشَّجنِ
وكأنَّما الباكي بدمعتِهِ
ما ذاق قبلك لوعةَ الحَزنِ!
فاذهبْ كما ذهب النّهارُ مضى
قد شيَّعَتْه مدامعُ الشّفقِ
ما كنتَ إلاَّ أمةً ذهَبتْ
والعبقريَّةُ أمَّةُ الأُمَم
أو شُعلةً أبصارَنا خلبتْ
ومنارةً نُصبَتْ على عَلَمِ
يا راقداً قد بات في مَثوىً
بَعُدَتْ به الدُّنْيا وما بَعُدَا
أيْن النّجوم أصوغ ما أهْوى
شعراً كشعْرك خالداً أبدَا؟!
لكنَّ حزني لو علمْت به
لم يُبْقِ لي صبْراً ولا جُهْدَا
فاعذر إلى يوم نفيك به
حقَّ النّبوغِ ونذكرُ المجْدَا
رثاء المطر
حسين العروي
فراغٌ مضيءٌ معشبٌ، عاث في مدىً
نديٍّ.. دجى عينيه مِ الحبِّ ينهلُ
عشقتُ الصحارى قبلُ.. والغيمُ في يدي
ودربي شعورٌ (أصفرُ اللّحن) مجهل
أغنّي.. (عرارَ) الشّوق.. يزرع أحرفي
ويلثمها (رملٌ حبيبٌ) وشمأل
صحارى.. رياحٌ عاشقاتٌ (ظـما) دمي
هل الكوكبُ الموبوءُ منهنَّ أجمل؟
ثيابي (نخيلٌ) والقصائدُ موطني
وبعضي جحيمٌ في نعيميَ يرفل
وأغفو أضمُّ (الضّوءَ) أرفو نجومَهُ
لياليَ خضراءَ الظّلام.. وآمل
أُغنّي إلى أن يعطش الحرفُ في فمي
ويقرأَ (لوني) كيف بالله يذبل؟!!
فأهفو إليه لاثماً: إنّني أنا
هواكَ.. وإنّي منك (يا أنتَ) أخجلُ
أأنتَ غزيرُ الوجد.. يا أحمرَ الخطا؟
أهذا شبابُ الدّهرِ يا (حينَ تنزل)؟
أتيتُ (نسيمَ الفجر) سجعَ حمائمٍ
يناغمه (نورٌ مشوقٌ) وبلبل
وماسَ (انتظارُ الكرمِ) ماءً مزخرفاً
وأيقنتُ.. أن العشبَ لابدَّ مُقبِل
وغرّد (موجٌ) في (غموضِ) جزيرةٍ
تعامتْ عن (الموّالِ) واللّيلُ أليلُ
مضى زمنٌ.. والجرحُ (ممطرُ غابتي)
ويطرق ووسائل بابي اللّيلُ.. والرّيحُ تسأل
وبعدُ.. أتاني.. ليت إذ جاء لم يكن
ونادى.. تجافَى (الحرفُ) ماتَ التخيُّل
وقفتُ.. أهذا النّخلُ؟! لا لم يكنْ هنا
سرابٌ، أنا والنّخلُ، والحلمُ يُشعَل
قطفنا.. ولَوّنّا.. وحان قطافُنا
ولا بدَّ أن نرضَى.. فذلك أفضل
لقد كان.. لا تسألْ.. وجوهٌ قليلةٌ
تُسوسن حقدَ اللّيل حبّاً.. وترحل
سأَلوني: لِمَ لَمْ أَرْثِ أَبي؟
أحمد شوقي
سأَلوني: لِمَ لَمْ أَرْثِ أَبي؟
ورِثاءُ الأَبِ دَيْنٌ أَيُّ دَيْنْ
أَيُّها اللُّوّامُ، ما أَظلمَكم!
أينَ لي العقلُ الذي يسعد أينْ؟
يا أبي، ما أنتَ في ذا أولٌ
كلُّ نفس للمنايا فرضُ عَيْنْ
هلكَتْ قبلك ناسٌ وقرَى
ونَعى النّاعون خيرَ الثّقلين
غاية ُ المرءِ وإن طالَ المدى
آخذٌ يأخذه بالأصغرين
وطبيبٌ يتولى عاجزاً
نافضاً من طبَّه خفيْ حنين
إنَّ للموتِ يداً إن ضَرَبَتْ
أَوشكَتْ تصْدعُ شملَ الفَرْقَدَيْنْ
تنفذ الجوَّ على عقبانه
وتلاقي اللّيثَ بين الجبلين
وتحطُّ الفرخَ من أَيْكَته
وتنال الببَّغا في المئتين
أنا منْ مات، ومنْ مات أنا
لقي الموتَ كلانا مرتين
نحن كنا مهجة ً في بدنٍ
ثم صِرْنا مُهجة ً في بَدَنَيْن
ثم عدنا مهجة في بدنٍ
ثم نُلقى جُثَّة ً في كَفَنَيْن
ثم نَحيا في عليٍّ بعدَنا
وبه نُبْعَثُ أُولى البَعْثتين
انظر الكونَ وقلْ في وصفه
قل: هما الرّحمة ُ في مَرْحَمتين
فقدا الجنّة َ في إيجادنا
ونَعمْنا منهما في جَنّتين
وهما العذرُ إذا ما أُغضِبَا
وهما الصّفحُ لنا مُسْتَرْضَيَيْن
ليتَ شعري أيُّ حيٍّ لم يدن
بالذي دَانا به مُبتدِئَيْن؟
ما أَبِي إلاَّ أَخٌ فارَقْتُه
وأَماتَ الرُّسْلَ إلاَّ الوالدين
طالما قمنا إلى مائدة ٍ
كانت الكسرة ُ فيها كسرتين
وشربنا من إناءٍ واحدٍ
وغسلنا بعدَ ذا فيه اليدين
وتمشَّيْنا يَدي في يدِه
من رآنا قال عنّا: أخوين
نظرَ الدّهرُ إلينا نظرة ً
سَوَّت الشرَّ فكانت نظرتين
يا أبي والموتُ كأسٌ مرة ٌ
لا تذوقُ النّفسُ منها مرتين
كيف كانت ساعة ٌ قضيتها
كلُّ شيءٍ قبلَها أَو بعدُ هَيْن؟
أَشرِبْتَ الموت فيها جُرعة ً
أَم شرِبْتَ الموتَ فيها جُرعتين؟
لا تَخَفْ بعدَكَ حُزناً أَو بُكاً
جمدتْ منِّي ومنكَ اليومَ عين
أنت قد علمتني تركَ الأسى
كلُّ زَيْنٍ مُنتهاه الموتُ شَيْن
ليت شعري: هل لنا أن نتلقي
مَرّة ً، أَم ذا افتراقُ المَلَوَين؟
وإذا متُّ وأُودعتُ الثرى
أَنلقَى حُفرة ً أَم حُفْرتين؟