يكاد النقّادُ يُجمعون على أنَّ دائرةَ العمل الأدبيّ لا تكتمل إلّا بوجود الأطراف كافّة: الْمُرسِل/الأديب أو المبدع، والْمُرْسَل إليه/القارئ أو المتلقّي، والرّسالة/النصّ الأدبيّ، فهل هناك قواسمُ مشتركة بين حياة الكاتب نجيب محفوظ وعنوان الرّواية (اللّصّ والكلاب)؟
إذا عرفنا أنَّ نجيب محفوظ عايش ثورة (يوليو، 1952م)، واستوعب تبعاتِها وتغيّراتّها الدراميَّة الحادّة سياسيًا واجتماعيًا وفكريًا؛ فإننّا سندرك أبعاد القضيَّة التي تُقلقُ الكاتب وتقضّ مضجعه، ممثّلةً في انتقاده للواقع المصريّ بعد الثّورة، فعنوان الرّواية (اللّصّ والكلاب) يقدّم قيمةً دلاليَّة مكثّفة تلخّص الأحداث في ثنائيَّة لفظيَّة تحمل قيماً متضادّةً بين (اللصّ) بأبعاده الإجراميَّة الشّرسة، والكلاب بما تحمل من معنى الوفاء والإخلاص، الّذي يُنتزع بصعوبةٍ من بين تراكمات الدوالّ السلبيَّة للفظة (الكلاب) المرسومة في الذهن البشريّ، فهل يستحقّ اللصّ (سعيد مهران) هذا اللّقب على الرَّغم من إخلاصه لمبادئ الثّورة؟ وبالمقابل هل تستحقّ هذه الكلاب (نبويَّة وعليش ورؤوف علوان) صفات الوفاء على الرغم من أنّها كانت تتعاطى الغدر والخيانة والتنكّر للقيم الثوريَّة؟
إذا تجاوزنا العنصر الحكائي في الرواية وصولًا للحبكة، فإنّنا سنلمسُ حضورًا تقليديًا واضحًا في أبجديّة عرض الحدث، حيثُ النتّائج المنطقيَّة المترتّبة على الأسباب، فالانتقامُ نتيجةٌ منطقيَّة ومتوقعة ترتبت على الخيانة التي تعرض لها سعيد مهران، ومقتل حسين شعبان جاء نتيجة متوقعة، بسبب وجوده في بيت عليش، ونفور ابنته سناء منه كان متوقعًا بعد هذا الغياب الطويل بين أوردة ظلام السجون، أمّا النهاية فقد كانت تقليديَّة بامتياز؛ إذْ إنَّ مُجريات الأحداث وتحوّل سعيد مهران إلى خارجٍ عن القانون، ولصّ مجرم لا بدَّ أن تفضي به إلى هذه النهاية المأساويَّة، عندما حاصرته الشّرطة وأمطرته بالرّصاص.
لقد قدَّم لنا نجيب محفوظ روايةً واقعيَّة مُثقلةً بالنقد اللاذع للواقع المصري بعد الثورة، حيث الانتهازيَّة والمتاجرة بالشَّرف، وإكراه النفس على الدخول إلى مربّع الإجرام من حيث لا تشعر، ولكنَّ ما يميّز هذه الرواية هو أسلوب الكاتب الذي آثر فيه لغة البساطة والوضوح، والوصف الدقيق، وقد نفض عن نفسه غبار المحسّنات البديعيَّة المتكلّفة؛ لأنَّ لغة العصر ترفض هذا النمط، وتميل إلى لغة الصحافة والطباعة، كما أنّها تقترب من لغة الحياة اليومية، عَبْرَ اعتماد الكاتب لغةً واقعيَّة حيّة، لها علاقة بالشارع المصري، وعليه فإنّنا نستطيع أن نقول: إنَّ نجيب محفوظ هو أوَّلُ من أصَّل لتجربة جديدة، تتداخلُ فيها اللغة الفصيحة باللهجة العاميَّة؛ رغبةً منه في كشف تفاصيل مكنونات المواطن العربي الذي طحنته الهموم، وأثقلت كاهلَهُ المصائبُ، كما تتميز لغة الرواية بتداخل جليٍّ في خيوط السرد الرّوائيّ، فثمةَ تمازجٌ واضحٌ بين صوت الكاتب وصوت السارد والشخصية؛ والهدف من ذلك هو الإحاطة بهموم الشخصية من جوانبها كافّةً، كما نَلمسُ اعتمادَ الكاتب لغة الوصف القصصيّ، واعتماد الحوار بنوعيه: الديالوج والمونولوج.
والآن بإمكاننا أن نقدّم إجابةً للتساؤلات التي طُرحت في بداية التحليل، إذْ أنَّ عنوان هذه الرواية شكَّل مفارقةً فنيَّة غايةً في الروعة والجمال، حيث استطاع الكاتب أن يغيّر الكثير من المفاهيم المشوّهة، والحقائق المقلوبة، حيث الخلط بين مفهوم وتعريف ومعنى الأمانة والخيانة، والظّالم والمظلوم، والوطنيّة والتّنكّر للوطن، في محاولةٍ منه لإرجاع الأشياء إلى أصولها الحقيقيَّة.