فهد العتيق شاعر القصة السعودية الذى أمتعنا من قبل بإذعان صفير و أظافر صغيرة جداّ يكتب لنا ( كائن مؤجل ) روايته الأولى ، وها هو عندما يغادر أرض القصة إلى الرواية كأنتعرف ما هو يغادر ذاته البكر الأولى مصحوباً بمرارة واقع شديد الصخب والعنف ، صحيح هو لم يكن يوماً بعيداً عن هموم مجتمعه ، وصحيح هو كان ـ دائماً ـ متأسياً محتشداً بألم داكن يلون لغته التى تختار عادة أن تحوم ولا تنقض ، لكنه هذه المرة ينقض بقسوة تليق بنفس أكلها الألم حتى النخاع ، نفس لم تعد قادرة على التكنى أو الاختباء وراء استعارات اللغة وحيلها الجمالية التى لاتنتهى ، لم تعد قادرة على التحليق طويلاً إنها ببساطة بنفس مثقلة ثملة تترنح كطائر ذبيح ، ربما يحوم قليلاً ، ويأخذنا فى سياقات مفعمة الرهافة والعذوبة وكأنها توسلات وأنين ، ثم سرعان ما ينفجر يصرخ بالألم ، ينقض ويواجهنا بقسوة واقعنا ، ويعرينا بلغة حادة وخادشة ، ربما هذا الجدل المستمر بين مستويين من اللغة هو الامتياز الذى منحته الرواية بامتدادها الزمنى ، وتحولات وتعددية وقائعها ، وهكذا تكشف الرواية عن إمكانية جديدة من إمكانات ( فهد العتيق ) ، إنه الكشف العميق لتاريخية الذات الفردية فى حال اشتباكها العنيف مع الذات المجتمعية ، فكل أبطال الرواية هم جزء وتجسيد حى لهذا الواقع بهزائمة وانكساراته التى تتغلل فى الروح وتصيبها بالعطب ، إن هذه الروح المعطوبة غير قادرة على التفاعل والمشاركة والاندفاع فى تدفقات الحياة ، فتنتحى لنفسها جانباً مظلماً من الهواجس والأحلام المخيفة ، وتنسحب فى حالات من النوم المؤرق أو الغيبوبة إن أردنا الدقة ، إنها حياة مؤجلة ، لكائن مؤجل .
وتمثل الحارة رمزا من رموز الرواية ، يرتبط بالزمن فى دلالته وإن ارتبط بالمكان فى معناه الظاهر ، حيث فى الحارة / الذات ، يتشكل الوعى الخالص بريئا وطفلياً ، غير أن المكاشفة الحقيقية تبدأ عند الراوى لحظة مغادرة الحارة القديمة إلى شقة بمدينة الرياض ، وهى لحظة زمنياً ترتبط بمغادرة مرحلتى الطفولة والصبا إلى مرحلة الشباب ، ومن ناحية أخرى هى مرحلة انتقال المجتمع السعودى من حال البساطة الأولى / البداوة / القرية إلى حال المدنية بسياقاتها المربكة والمركبة.وهكذا فالرواية تشهد ارتباكات المجتمع إزاء طفرة التحديث السعودى ،والكائن المؤجل هو ضحية خدعة التحديث وأحلام النهضة العربية ، حيث تحددت إقامته فى هذه الأحلام من غير أن تتجسد فى الواقع ، تماماً كما تحددت إقامة بطل الرواية فى شقة بمدينة الرياض ليصبح فريسة للخواءوالشعور برغبة غير مفهومة فى النوم المؤرق الملتبس بالهلاوس إن رغبة فهد العتيق فى الإعلان عن أزمة كائنه المؤجل ، هى رغبة فى الصراخ ، والفضح ، وتعرية الواقع ، ومن ثم تصل اللغة فى كثير من الأحيان إلى دفق لافت من الحدة والمباشرة المبررة ، بما لايدع مساحة للتأويل أو الشرح ، ويمكن أن نتأكد من ذلك عندما نقرا هذه المقتطفات التى تصل إلى حدود التحليل الاجتماعى والسياسى أكثر منه نوع من السرد الروائى..
(يرىأن هذا المجتمع ، الذى ينتقل الآن من مرحلة إلى أخرى ، قد انقسم إلى فريقين ، فريق تزمت دينياً ، وفريق اندفع نحو الحياة الاستهلاكية الجديدة بكل قوة ، وبينهما فريق ثالث ضائع وتائه ...).
( سمع عن أورام عجيبة ظهرت ، جرائم بشعة يرتكبها مراهقون ، وأحيانا يرتكبها رجال الشرطة أنفسهم ، إنحلال أخلاقى ، تزمت دينى مرضى ، فساد ... ) . ( قصص ولا فى الخيال دارت رحاها الغامضة ، شباب يضربون رجل دين حتى الموت ، رجال دين يقفزون أسوار البيوت العائلية من أجل الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، شباب يتزوجون من تايلاند ولا يعودون إلى الوطن ، شباب يموتون فى أفغانستان باسم الجهاد ، ومعسكرات صيفية لتعليم المراهقين الغلو الدينى وكره الحياة وكره الناس ..).