"إنَّ الله جميلٌ يُحِبُّ الْجَمال"، كلماتٌ كثيراً ما نُردّدها إذا أردْنا أنْ نُقنعَ شَخْصاً ما بقيمة الجمال في هذه الحياة. ومنذُ أنْ خلقَ الله -سبحانه وتعالى- هذا الكونَ الْمَهولَ، لمْ يَخْلُقْهُ مجرّداً من مقوّمات الجمال، الَّتي تشحنُ الإنسانَ بقوّةٍ ديناميَّةٍ، تجعلُهُ أكثر تفاعلاً؛ ومن ثمَّ أكثرَ فاعليَّةً في حركةِ التَّطوّر الَّذي يطالُ الْمُجْتَمعاتِ البشريّة. فالسّماءُ عندما تعانقُ البحرَ عنْدَ خطِّ الأفق، والأشجارُ عندما تُلقي بظلّها الظّليل؛ فتترك بصماتها الجميلةَ على وَجْنَةِ الأرض، والطّيورُ عندما تغوص في حُضْنِ الهواء، وتَضْربُ بأجنحتها الملوّنة...أليس ذلك كلّه يرسمُ لوحةً كونيَّة، تدلُّ على عظمةِ الخالقِ -عزَّ وجلّ-، وما بثّهُ في هذا الكونِ مِنْ أسرار الجمال والإبداع؟!
يُعدُّ الفنُّ -عامَّةً- نَتاجًا إبداعيّاً، لا يُجسّدُ حقيقةَ الثّقافةِ البشريَّة بدلالتها المسطّحة، وبُعْدِها الآنيّ العابر فقط، إنّما يُعبّرُ عن آمال الإنسانِ وطموحاته وتطلّعاته، وأكثرُ منْ ذلك أنَّهُ يعبّرُ عن فلسفة وجودهِ في الحياة، وعليهِ فهو يتخطّى كونهُ مجرّد ضرورةٍ حياتيَّةٍ للإنسان، مثل: الماء، والطعام، والهواء؛ ليحقّقَ معنىً أعظمَ وأشمل.
والفنونُ نوعان: ماديَّةٌ، مثلُ، الفنونِ التشكيليَّةِ، ومنها الرَّسْمُ، والنَّحْتُ، والزّخرفة، وغيرُ مادية كالموسيقى والدراما، والإبداعِ القصصيّ. وفنُّ الرَّسْم: هو إحْدى طرائقِ التَّعْبير الفنيَّةِ الرّاقيَّة، التي يُترجمُ فيها الرّسّامُ -بِرَشَقاتِ ريشته- أحاسيسهُ، وانفعالاتهِ، وانْطِباعاتِهِ تجاه الموجوداتِ حَوْلَه، متّخذاً من اللَّونِ وسيلةً رئيسيةً تدخلُ -عَبْرَها- إلى عالَمِهِ الْمُسْتَتِر.
وفنُّ الرَّسْمِ لا يقومُ على قوانينَ صارمةٍ، ومعاييرَ جامدةٍ -على أهمّيتها- بِقَدْرِ ما يقومُ على مَبْدأ الإحترافِ، والخيال الواسع، والحسّ المرّهف، والنَّظرةِ السّابرة للأشياء، والبحث الدّؤوب عن التجديد والتطوّر، وتقديم الصّورة بطريقةٍ تتجاوزُ الطَّرْحَ التقليديّ، الذي يعكس الواقع أو الطبيعة بشكلٍ موضوعيّ، لا يقدّمُ تفسيراً جديداً للظّاهرة، وهذا كلّه لن يتمكّنَ منه الرّسام إنْ فقدَ أهمّ عنصرٍ من عناصرِ الفنّ، ألا وهو الموهبة، ولكي يضمن الرّسّامُ للموهبة مبدأ الخصوبةِ المتحرّكة، والعطاءِ المتجدّد، لابُدَّ أن تنال حظّاً وافراً من الصَّقل، والمران المستمرّيْن.
وتختلفُ الرّسومُ مِنْ حَيثُ: الهدفُ، والنَّوع، فهناك الرسوم البسيطة، وهي ما يُسجّل مِنْ مُلاحظات لشيء ما، أو حالةٍ معينة، لها أهميّتها في لحظة مناسبة. وهناك الرسوم التحضيرية، وهي رسوم تمهيدية، لوسيلة أخرى من وسائل التحضير، كالتصوير، والنحت. وهناك الرسوم المتكاملة، وهى التي تؤخذ على أنها عمل فني مستقل قائم بذاته. كما أنَّ لفنّ الرَّسم مدارسَ متعدّدة، كلُّ مدرسةٍ تحملُ رؤيةً مخالفة لغيرها، منها: المدرسة الواقعية، والكلاسيكية، والرمزية، والتجريدية، والانطباعية، والسريالية، والوحشية، والتكعيبية، والمستقبلية، والمدرسة الرومانسية، التي تعبّر عن المشاعر بتلقائية.
وفي ذلك كلّه لا يجدرُ بالرسّام الحاذق، الماهر أن ينطلقَ في أعمالهِ الفنيَّة من بوتقةِ الذّهن المجرّد، أو الخيال المقنّن، أو الثّقافة المسطّحة العابرة، إنّما عليه أن ينطلقَ من ذاته؛ كي يغوص في أعماقِ الواقع، ويقدّم بلوحاته معانيَ جديدة للحياة، عَبْرَ فنٍّ راقٍ جميلٍ مُلتزم، يجمع فيه بين دقّة التَّفكير، وبُعد النَّظر، واتّقاد البصيرة، ورهافةِ الحسّ، وجمال اللون، ورفعةِ الهدف.