الفقه
هو العلم بالأحكام الشرعية، والتي يجب معرفتها من أجل تنفيذها، والعمل بها، فبذلك تتم العبودية لله تعالى على الوجه الذي يرضيه، ولقد أنزل الله عز وجل القرآن الكريم، وفيه الأحكام الشرعية، ثم جاء رسوله الكريم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وبين لنا تلك الأحكام، وفصلها، فما لم يكن مفصلا في القرآن الكريم، جاءت سنة النبي عليه عليه الصلاة وفسرته، وبينته للصحابة، وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يستفتون الرسول عليه الصلاة والسلام فيما يصعب عليهم فهمه، وكان يبين لهم ذلك، إما بالقول أو بالفعل، إلى أن توفاه الله، وقبضت روحه الشريفة، الطاهرة.
ظهر الفقهاء، والمجتهدون من الصحابة، واعتمدوا في اجتهادهم على كتاب الله وسنة نبيه، وعلى القياس والإجماع، وبعد عصر الصحابة جاء عصر التابعين، ثم من يليهم، والذين كانوا يرجعون أيضا إلى الكتاب، والسنة، وفتاوى الصحابة، واجتهاداتهم، إلا أنه وبسبب المسائل الجديدة التي كانت تعرض عليهم، اضطرهم ذلك إلى وضع أصول، وطرق ووسائل تمكنهم من الاستنباط، والاجتهاد، للوصول إلى الحكم الشرعي، ثم بعدها شاعت المذاهب وكثرت، وعلى رأس كل مذهب إمام، وجميعهم كانوا من أهل السنة والجماعة، ويرجعون إلى كتاب الله وسنة نبيه، ولكن الاختلاف بينهم كان في طرق ووسائل الاجتهاد، والسؤال الذي قد يطرح هنا هو: كم هو عدد المذاهب التي ظهرت في تلك الفترة؟
عدد مذاهب أهل السنة
إن الخلاف بين الفقهاء كان في طريقتهم، ومذهبهم في الاجتهاد، بالإضافة إلى أن بعضهم لم تصله بعض الأحاديث التي استند إليها الفقهاء الآخرون، وبالتالي انعدام الدليل لديهم، أو الاختلاف في صحة الحديث، أو فهمه، وبالتالي الاختلاف في معنى الحديث، وبالنتيجة اختلاف الفتاوى، ومن هؤلاء الفقهاء أو الأئمة وأصحاب المذاهب كل من: أبو حنيفة النعمان، ومالك بن أنس، والليث بن سعد، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، ومحمد بن جرير الطبري، والأوزاعي، والظاهري وغيرهم، ولكن أكثر المذاهب التي اشتهرت لدى علماء أهل السنة، هي أربعة مذاهب، وذلك لكثرة تلاميذهم، وانتشار مذاهبم، وأقوالهم بين الناس؛ حيث أصبحت تلك المذاهب الأربعة هي المذاهب الرسمية لدى علماء أهل السنة، وهي: المذهب الحنفي، والمذهب المالكي، والمذهب الشافعي، والمذهب الحنبلي.
المذهب الحنفي
إمام هذا المذهب، والذي سمي باسمه هو الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت، وهو من التابعين، حيث كان فقيها من أهل العراق، وقد ألف كتاب (الفقه الأكبر)، ومن أشهر تلامذته كل من: (الإمام محمد بن الحسن الشيباني، والحسن بن زياد اللؤلؤي، وغيرهم)، ومن أبرز مؤلفات هذا المذهب: (كتاب المبسوط لمؤلفه شمس الدين السرخسي، وكتاب بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع لمؤلفه الكاساني، وكتاب عقود الجواهر الحنيفة في أدلة مذهب الإمام أبي حنيفة).
أماكن انتشار هذا المذهب كانت في (أفغانستان، والعراق، وتركيا، وسوريا)، وقد توسع فقهاء هذا المذهب في مسألة الاستحسان، وقد جاء عن أبي حنيفة قوله بأن فتاواه مبنية على كتاب الله عز وجل، وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، وأنه لا يتعمد مخالفتها، وبخصوص أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام، كان يقول بأنه إن صح الحديث فهو مذهبه، وكان يقول: "إذا قلت قولا يخالف كتاب الله تعالى وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فاتركوا قولي"، وورد عنه أيضا أنه قال: "لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه".
المذهب المالكي
إمام هذا المذهب، والذي سمي باسمه هو الإمام مالك بن أنس، وكان موطنه الحجاز، وقد ألف الإمام مالك كتاب (الموطأ)، وأماكن انتشار هذا المذهب في الدول كل من: (الجزائر، والسودان، وتونس، والمغرب، وليبيا، وموريتانيا، والبحرين، والإمارات العربية المتحدة، والكويت)، وقد اعتمد في اجتهاده على عمل أهل المدينة، والمصالح المرسلة، وسد الذرائع، والعرف، والعادة، والاستصحاب، وقاعدة مراعاة الخلاف، وقد ورد عن الإمام مالك قوله: "ليس أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم، إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم"، كما قال: إنما أنا بشر أخطىء وأصيب، فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه".
المذهب الشافعي
إمام هذا المذهب، والذي سمي باسمه هو الإمام محمد بن إدريس الشافعي، وقد ألف: (كتاب الرسالة، وكتاب الحجة)، وأبرز علماء الشافعية كل من: (الإمام جلال الدين السيوطي، والإمام أبو حامد الغزالي، والإمام محي الدين النووي، والإمام ابن حجر العسقلاني، وغيرهم)، وأماكن انتشار هذا المذهب في: (أندونيسيا، وماليزيا، وشرق افريقيا، وجنوب الهند).
وقد وضع الإمام الشافعي كتاب في علم الأصول، وعلماء المذهب الشافعي كانوا يعتمدون في طرق ووسائل استدلالهم، واجتهاداتهم الأصول التي وضعها الإمام الشافعي، وقد كان مذهبه وسطا بين مذهب أبي حنيفة ومذهب الإمام مالك؛ حيث كان الإمام ابو حنيفة متوسعا في الرأي، بينما كان الإمام مالك في مذهبه معتمدا على الحديث.
ومن أبرز مؤلفات هذا المذهب: (كتاب منهاج الطالبين لمؤلفه النووي، وكتاب الحاوي الكبير لمؤلفه الماوردي، وكفاة الأخيار لمؤلفه الحصني)، وقد ورد عن الإمام الشافعي أنه قال: "ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعزب عنه، فمهما قلت من قول، أو أصلت من أصل فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لخلاف ما قلت، فالقول ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قولي"، كما قال: "كل حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو قولي، وإن لم تسمعوه مني".
المذهب الحنبلي
إمام هذا المذهب، والذي سمي باسمه هو الإمام أحمد بن حنبل، ولد في بغداد، ونشأ بها، وتفقه على يد الإمام الشافعي، ثم صار مجتهدا مستقلا، حيث اهتم بجمع السنة وحفظها، ثم بعدها أصبح إمام المحدثين في عصره، ولم يؤلف الإمام أحمد كتاب في الفقه، وإنما أخذ تلامذته مذهبه من أقواله، وأفعاله، وأجوبته، وقد صنف في الحديث كتابه الكبير (المسند).
ويعد المذهب الحنبلي من الناحية الزمنية هو آخر المذاهب الأربعة، ومن أشهر تلامذته كل من (ابنه صالح بن أحمد بن حنبل، وابنه عبد الله بن أحمد، وإبراهيم بن إسحاق الحربي)، ومن أبرز مؤلفات هذا المذهب: (كتاب القضاء، وكتاب الإفتاء)، وأماكن انتشار هذا المذهب في: (نجد، والخليج العربي، ومصر، وبلاد الشام)، وقد عرف عن الإمام حنبل أنه كان يقدم الحديث على ما سواه، فإذا وجد فتوى لصحابي كان يقدمها على أي رأي، أو قياس، وقد ورد عنه قوله: "لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري، وخذ من حيث أخذوا"، وقال أيضا: "رأي الأوزاعي ورأي مالك ورأي أبي حنيفة كله رأي، وهو عندي سواء، وإنما الحجة في الآثار".
وفي الختام نقول بأنه يجب أن يعرف الجميع أن المذاهب الفقهية هي عبارة عن مدارسة فقهية، تتفق في الأصول، وتختلف في الفروع، أما العقيدة فلا تختلف عليها، لذلك ينبغي على كل شخص أن لا يتعصب لأحد المذاهب دون الآخر، فالأئمة الأربعة كانوا يعظمون الكتاب والسنة، وهم من أهل السنة والجماعة، وكان قصدهم واحد، هو الوصول إلى الحق، وقد بذلوا كل ما في وسعهم لخدمة دين الله تعالى، وبيان أحكامه الشرعية.