شعر جبران خليل جبران
هنا سنورد قصيدة الشاعر الكبير جبران خليل جبران المشهورة ( أعطني الناي )
قصيدة اعطني الناي
الخيرُ في الناسِ مصنوعٌ اذا جُبروا و الشرُّ في الناسِ لا يفنى وإِن قُبروا
وأكثرُ الناسِ آلاتٌ تحركها أصابعُ الدهر يوماً ثم تنكسرُ
فلا تقولنَّ هذا عالم علمٌ ولا تقولنَّ ذاك السيد الوَقُرُ
فاحسن وأفضل الناس قطعانٌ يسير بها صوت الرعاة و من لم يمشِ يندثر
ليس في الغابات راعٍ لا ولا فيها القطيعْ
فالشتا يمشي و لكن لا يُجاريهِ الربيعْ
خُلقَ الناس عبيداً للذي يأْبى الخضوعْ
فإذا ما هبَّ يوماً سائراً سار الجميعْ
أعطني النايَ و غنِّ فالغنا يرعى العقولْ
وأنينُ الناي أبقى من مجيدٍ و ذليلْ
و ما الحياةُ سوى نومٍ تراوده أحلامُ من بمرادِ النفس يأتمرُ
و السرُّ في النفس حزن النفس يسترهُ فإِن تولىَّ فبالأفراحِ يستترُ
و السرُّ في العيشِ رغدُ العيشِ يحجبهُ فإِن أُزيل توَّلى حجبهُ الكدرُ
فإن ترفعتَ عن رغدٍ وعن كدرِ جاورتَ ظلَّ الذي حارت بهِ الفكرُ
ليس في الغابات حزنٌ لا و لا فيها الهمومْ
فإذا هبّ نسيمٌ لم تجىءْ معه السمومْ
ليس حزن النفس الاَّ ظلُّ وهمٍ لا يدومْ
و غيوم النفس تبدو من ثناياها النجومْ
أعطني الناي و غنِّ فالغنا يمحو المحنْ
و أنين الناي يبقى بعد أن يفنى الزمنْ
و قلَّ في الأرض مَن يرضى الحياة كما تأتيهِ عفواً و لم يحكم بهِ الضجرُ
لذاك قد حوَّلوا نهر الحياة الى أكواب وهمٍ اذا طافوا بها خدروا
فالناس إن شربوا سُرَّوا كأنهمُ رهنُ الهوى وعَلىَ التخدير قد فُطروا
فذا يُعربدُ إن صلَّى و ذاك إذا أثرى و ذلك بالأحلام يختمرُ
فالأرض خمارةٌ و الدهر صاحبها و ليس يرضى بها غير الألى سكروا
فإن رأَيت أخا صحوٍ فقلْ عجباً هل استظلَّ بغيم ممطرٍ قمرُ
ليس في الغابات سكرٌ من خيال أو مدام
فالسواقي ليس فيها غير إكسير الغمامْ
إنما التخدير ُ ثديٌ و حليبٌ للانامْ
فإذا شاخوا و ماتوا بلغوا سن الفطامْ
أعطني النايَ و غنِّ فالغنا خير الشرابْ
و أنين الناي يبقى بعد أن تفنى الهضاب
و الدينُ في الناسِ حقلٌ ليس يزرعهُ غيرُ الألى لهمُ في زرعهِ وطرُ
من آملٍ بنعيمِ الخلدِ مبتشرٍ و من جهولٍ يخافُ النارَ تستعرُ
فالقومُ لولا عقابُ البعثِ ما عبدوا رباًّ و لولا الثوابُ المرتجى كفروا
كأنما الدينُ ضربٌ من تجارتهمْ إِن واظبوا ربحوا أو أهملوا خسروا
ليس في الغابات دينٌ لا ولا الكفر القبيحْ
فاذا البلبل غنى لم يقلْ هذا الصحيحْ
إنَّ دين الناس يأْتي مثل ظلٍّ و يروحْ
أعطني الناي و غنِّ فالغنا خيرُ الصلاة
و أنينُ الناي يبقى .بعد أن تفنى الحياةْ
و العدلُ في الأرضِ يُبكي الجنَّ لو سمعوا بهِ و يستضحكُ الاموات لو نظروا
فالسجنُ و الموتُ للجانين إن صغروا و المجدُ و الفخرُ و الإثراءُ إن كبروا
فسارقُ الزهر مذمومٌ و محتقرٌ و سارق الحقل يُدعى الباسلُ الخطرُ
و قاتلُ الجسمِ مقتولٌ بفعلتهِ و قاتلُ الروحِ لا تدري بهِ البشرُ
ليس في الغابات عدلٌ لا و لا فيها العقابْ
فاذا الصفصاف ألقى ظله فوق الترابْ
لا يقول السروُ هذي بدعةٌ ضد الكتابْ
انَّ عدلَ الناسِ ثلجُ إنْ رأتهُ الشمس ذابْ
أعطني الناي و غنِ فالغنا عدلُ القلوبْ
و أنين الناي يبقى بعد أن تفنى الذنوبْ
و الحقُّ للعزمِ و ألارواح ان قويتْ سادتْ و إن ضعفتْ حلت بها الغِيرُ
ففي العرينة ريحٌ ليس يقربهُ بنو الثعالبِ غابَ الأسدُ أم حضروا
و في الزرازير جُبن و هي طائرة و في البزاةِ شموخٌ و هي تحتضر
و العزمُ في الروحِ حقٌ ليس ينكره عزمُ السواعد شاءَ الناسُ أم نكروا
فإن رأيتَ ضعيفاً سائداً فعلى قوم إذا ما رأَوا أشباههم نفروا
ليس في الغابات عزمٌ لا و لا فيها الضعيفْ
فاذا ما الأُسدُ صاحت لم تقلْ هذا المخيفْ
انَّ عزم الناس ظلٌّ في فضا الفكر يطوفْ
و حقوق الناس تبلى مثل اوراق الخريفْ
أعطني الناي و غنِّ فالغنا عزمُ النفوسْ
و أنينُ الناي يبقى بعد أن تفنى الشموسْ
و العلمُ في الناسِ سُـبْـلٌ بانَ أوَّلها امَّا أواخرها فالدهرُ و القدرُ
و أفضلُ العلم حلمٌ إن ظفرتَ بهِ و سرتَ ما بين أبناء الكرى سخروا
فان رأيتَ أخا الأحلام منفرداً عن قومهِ و هو منبوذٌ و محتقرُ
فهو النبيُّ و بُردُ الغَدّ يحجبهُ عن أُمةٍ برداءِ الأمسِ تأتزرُ
و هو الغريبُ عن الدنيا وساكنِها و هو المهاجرُ لامَ الناس أو عذروا
و هو الشديد و إن أبدى ملاينةً و هو البعيدُ تدانى الناس أم هجروا
ليس في الغابات علمٌ لا و لا فيها الجهولْ
فاذا الأغصانُ مالتْ لم تقلْ هذا الجليلْ
انّ علمَ الناس طرَّا كضبابٍ في الحقولْ
فاذا الشمس أطلتْ من ورا آلأفقِ يزولْ
أعطني النايَ وغنِّ فالغنا خير العلومْ
و أنينُ الناي يبقى بعد أن تطفى النجومْ
و الحُرُّ في الأرض يبني من منازعهِ سجناً لهُ و هو لا يدري فيؤتسرُ
فان تحرَّر من أبناءِ بجدتهِ يظلُّ عبداً لمن يهوى و يفتكرُ
فهو الأريب و لكن في تصلبهِ حتى و للحقِّ بُطلٌ بل هو البطرُ
و هو الطليقُ و لكن في تسرُّعهِ حتى الى أوجِ مجدٍ خالدٍ صِغرُ
ليس في الغابات حرٌّ لا ولا العبد الدميمْ
انما الأمجادُ سخفٌ و فقاقيعٌ تعومْ
فاذا ما اللوز ألقى زهره فوق الهشيمْ
لم يقلْ هذا حقيرٌ وأنا المولى الكريمْ
أعطني الناي و غني فالغنا مجدٌ أثيلْ
و أنين الناي ابقى من زنيمٍ و جليلْ
و اللطفُ في الناسِ أصداف و إن نعمتْ أضلاعها لم تكن في جوفها الدررُ
فمن خبيثٍ له نفسان واحدةٌ من العجين و أُخرى دونها الحجرُ
و من خفيفٍ و من مستأنث خنثِ تكادُ تُدمي ثنايا ثوبهِ الإبرُ
و اللطفُ للنذلِ درعٌ يستجيرُ بهِ ان راعهُ وجلٌ او هالهُ الخطرُ
فان لقيتَ قوياًّ ليناً فبهِ لأَعينٍ فقدتْ أبصارها البصرُ
ليس في الغابِ لطيفٌ لينهُ لين الجبانْ
فغصونُ البان تعلو في جوار السنديانْ
و اذا الطاووسُ أُعطي حلةً كالارجوانْ
فهوَ لا يدري أحسنٌ فيهِ ام فيهِ افتتان
أعطني الناي و غنِّ فالغنا لطفُ الوديعْ
وأنين الناي ابقى من ضعيفٍ و ضليعْ
والظرفُ في الناس تمويهٌ وأبغضهُ ظرفُ الأولى في فنون الاقتدا مهروا
من مُعجبٍ بأمورٍ وهو يجهلها و ليس فيها له نفعٌ ولا ضررُ
و من عتيٍّ يرى في نفسهِ ملكاً في صوتها نغمٌ في لفظها سُوَرُ
و من شموخٍ غدت مرآتهُ فلكاً و ظلهُ قمراً يزهو و يزدهرُ
ليس في الغابِ ظريف ظرفهُ ضعف الضئيلْ
فالصَّبا و هي...عليل ما بها سقمُ العليلْ
انّ في الانهار طعماً مثل طعم السلسبيلْ
و بها هولٌ و عزمٌ يجرفُ الصلدَ الثقيلْ
أعطني الناي و غنِّ فالغنا ظرفُ الظريفْ
وأنين الناي ابقى من رقيق وكثيفْ
و الحبُّ في الناس أشكالٌ و أكثرها كالعشب في الحقل لا زهرٌ ولا ثمرُ
و أكثرُ الحبِّ مثلُ الراح أيسرهُ يُرضي و أكثرهُ للمدمنِ الخطرُ
و الحبُّ ان قادتِ الاجسامُ موكبهُ الى فراش من اللذّات ينتحرُ
كأنهُ ملكٌ في الأسر معتقلٌ يأبى الحياة و أعوان له غدروا
ليس في الغاب خليعٌ يدَّعي نُبلَ الغرامْ
فاذا الثيران خارتْ لم تقلْ هذا الهيامْ
إنَّ حبَّ الناس داءٌ بين حلمٍ و عظامْ
فاذا ولَّى شبابٌ يختفي ذاك السقامْ
أعطني النايَ و غنِّ فالغنا حبٌّ صحيحْ
وأنينُ الناي ابقى من جميل ومليحْ
وإن لقيتَ محباً هائماً كلفاً في جوعهِ شبعٌ في وِردهِ الصدرُ
و الناسُ قالوا هوَ المجنونُ ماذا عسى يبغي من الحبِّ او يرجو فيصطبرُ
أَفي هوى تلك يستدمي محاجرهُ و ليس في تلك ما يحلو و يعتبرُ
فقلْ همُ البهمُ ماتوا قبل ما وُلدوا أنَّى دروا كنهَ من يحيي و ما اختبروا
ليس في الغابات عذلٌ لا و لا فيها الرقيبْ
فاذا الغزلانُ جُنّتْ اذ ترى وجه المغيبْ
لا يقولُ النسرُ واهاً إن ذا شيءٌ عجيبْ
إنما العاقل يدعى عندنا الأمر الغريبْ
أعطني الناي و غنِّ فالغنا خيرُ الجنون
و أنين الناي ابقى من حصيفٍ و رصينْ
و قل نسينا فخارَ الفاتحينَ و ما ننسى المجانين حتى يغمر الغمرُ
قد كان في قلب ذى القرنين مجزرةٌ و في حشاشةِ قيسِ هيكلٌ وقرُ
ففي انتصارات هذا غلبةٌ خفيتْ و في انكساراتِ هذا الفوزُ و الظفرُ
و الحبُّ في الروح لا في الجسم نعرفهُ كالخمرِ للوحي لا للسكرِ ينعصرُ
ليس في الغابات ذِكْرٌ غير ذكر العاشقينْ
فالأُلى سادوا ومادوا و طغوا في العالمين
أصبحوا مثل حروفٍ في أسامي المجرمينْ
فالهوى الفضّاح يدعى عندنا الفتح المبينْ
أعطني الناي و غنّ و انس ظلم الأقوياء
إنما...الزنبق كأسٌ للندى لا للدماء
و ما السعادة في الدنيا سوى شبحٍ يُرجى فإن صارَ جسماً ملهُ البشرُ
كالنهر يركض نحو السهل مكتدحاً حتى اذا جاءَهُ يبطي و يعتكرُ
لم يسعد الناسُ الا في تشوُّقهمْ الى المنيع فان صاروا بهِ فتروا
فإن لقيتَ سعيداً و هو منصرفٌ عن المنيع فقل في خُلقهِ العبرُ
ليس في الغاب رجاءٌ لا و لا فيه المللْ
كيف يرجو الغاب جزءا وعلى الكل اشتملْ
وغايةُ الروح طيَّ الروح قد خفيتْ فلا المظاهرُ تبديها و لا الصوَرُ
فذا يقول هي الأرواح إن بلغتْ حدَّ الكمال تلاشت و انقضى الخبرُ
كأنما هي...أثمار إذا نضجتْ و مرَّتِ الريح يوماً عافها الشجرُ
و ذا يقول هي الأجسام ان هجعت لم يبقَ في الروح تهويمٌ و لا سمرُ
كأنتعرف على ما هى ظلٌّ في الغدير إذا تعكر الماءُ ولّت ومَّحى الاثرُ
ضلَّ الجميع فلا الذرَّاتُ في جسدٍ تُثوى و لا هي في الارواح تحتضرُ
فما طوتْ شمألٌ أذيال عاقلةٍ إلا ومرَّ بها الشرقي فتنتشرُ
لم أجدْ في الغاب فرقاً بين نفس و جسدْ
فالهوا ماءٌ تهادى و الندى ماءٌ ركدْ
و الشذا زهرٌ تمادى .و الثرى زهرٌ .جمدْ
و ظلالُ الحورِ حورٌ ظنَّ ليلاً فرقدْ
أعطني النايَ و غنِّ فالغنا جسمٌ وروح
وأنينُ الناي ابقى من غبوق وصبوحْ
و الجسمُ للروح رحمٌ تستكنُّ بهِ حتى البلوغِ فتستعلى و ينغمرُ
فهي الجنينُ وما يوم الحمام سوى عهدِ المخاض فلا سقطٌ و لا عسرُ
لكن في الناس أشباحاً يلازمها عقمُ القسيِّ التي ما شدَّها وترُ
فهي الدخيلةُ والأرواح ما وُلدت من القفيل و لم يحبل بها المدرُ
و كم عَلَى الارض من نبتٍ بلا أَرجٍ و كم علا الأفقَ غيمٌ ما به مطرُ
ليس في الغاب عقيمٌ لا و لا فيها الدخيلْ
إنَّ في التمر نواةً حفظت سر النخيلْ
و بقرص الشهد رمزٌ عن فقير و حقولْ
انما العاقرُ لفظ صيغ من معنى الخمولْ
أعطني الناي و غنِّ فالغنا جسمٌ يسيلْ
و أنينُ الناي أبقى . من مسوخ و نغولْ
و الموتُ في الأرض لابن الارض خاتمةٌ و للأثيريّ فهو البدءُ و الظفرُ
فمن يعانق في أحلامهِ سحراً يبقى و من نامَ كل الليل يندثرُ
و من يلازمْ ترباً حالَ يقظتهِ يعانقُ التربَ حتى تخمد الزهرُ
فالموتُ كالبحر , مَنْ خفّت عناصره يجتازه , و أخو الاثقال ينحدرُ
ليس في الغابات موتٌ لا و لا فيها القبورْ
فاذا نيسان ولىَّ لم يمتْ معهُ السرورْ
إنَّ هولَ الموت وهمٌ ينثني طيَّ الصدورْ
فالذي عاش ربيعاً كالذي عاش الدهورْ
أعطني الناي وغنِّ فالغنا سرُّ الخلود
و أنين الناي يبقى .بعد أن يفنى الوجود
أعطني الناي وغنِّ وانسَ ما قلتُ و قلتَ
انما النطقُ هباءٌ فأفدني ما فعلتَ
هل تخذتَ الغاب مثلي منزلاً دون القصورْ
فتتبعتَ السواقي و تسلقتَ الصخورْ
هل تحممتَ بعطرٍ و تنشفت .بنورْ
و شربت الفجر خمراً في كؤُوس من أثيرْ
هل جلست العصر مثلي .بين جفنات العنبْ
و العناقيد تدلتْ كثريات الذهبْ
فهي للصادي عيونٌ و لمن جاع الطعامْ
وهي شهدٌ و هي عطرٌ و لمن شاءَ المدامْ
هل فرشتَ العشب ليلاً و تلحفتَ الفضا
زاهداً في ما سيأْتي ناسياً ما قد مضى
و سكوت الليل بحرٌ موجهُ في مسمعكْ
وبصدر الليل قلبٌ خافقٌ في مضجعكْ
أعطني الناي و غنِّ و انسَ داًْ و دواء
إنما...الناس سطورٌ كتبت...لكن بماء
ليت شعري أي نفعٍ في اجتماع وزحامْ
و جدالٍ و ضجيجٍ واحتجاجٍ وخصامْ
كلها أنفاق خُلدٍ و خيوط العنكبوتْ
فالذي يحيا بعجزٍ فهو في بطءٍ يموتْ
العيشُ في الغاب و الأيام لو نُظمت في قبضتي لغدت في الغاب تنتثرٌ
لكن هو الدهرُ في نفسي له أَربٌ فكلما رمتُ غاباً قامَ يعتذرُ
و للتقادير سبلٌ لا تغيرها و الناس في عجزهم عن قصدهم قصروا