اتفق الفقهاء على أنّه في حال طلق الزّوج زوجته طلاقاً بائناً فإنّه لا يجوز له العودة إليها إلا بعقد جديد، سواءً أكانت في العدّة أم بعدها، ما دام الطلاق بائناً بينونةً صغرى، أمّا في حال كان الطلاق بائناً بينونةً كبرى فإنّه لا يعود إليها إلا بعقد جديد، ولكن يجب أن تتزوّج زوجاً غيره، ويدخل بها، ثمّ يفارقها، وبعد أن تنقضي عدّتها يمكنها أن تعود إلى زوجها الأوّل. قال تعالى:" فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِل لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ "، البقرة/230. كما وقد اتفقوا على أنّ الزّوج إذا طلق امرأته طلقةً رجعيّةً واحدةً أو اثنتين، فإنّه من الممكن أن يعود إليها من غير عقد جديد مادامت في فترة عدّتها، قال تعالى:" وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاَحًا "، البقرة/228. وقد اختلف الفقهاء في بعض أحكام الرّجعة واتفقوا في بعضها، وفي هذا المقال نذكر تفصيل ذلك. (1)
طريقة إرجاع الزوجة بعد الطلاق
تقسم كيفيّة وهيئة الرّجعة إلى قسمين: الرّجعة بالقول، والرّجعة بالفعل، وفي ما يلي تفصيل كلّ منهما:
الرجعة بالقول
اتفق الفقهاء على أنّ ارجاع الرّجل لزوجته يصحّ بالقول الذي يدلّ على ذلك، كأن يقول لمطلقته وهي فترة العدّة: راجعتك، أو ارتجعتك، أو رددتك لعصمتي، وكلّ لفظ يؤدّي إلى هذا المعنى. قال العيني من الحنفية ما نصّه:" وَالرَّجْعَةُ أَنْ يَقُول لِلَّتِي طَلَّقَهَا طَلْقَةً، أَوْ طَلْقَتَيْنِ: رَاجَعْتُكِ بِالْخِطَابِ لَهَا، أَوْ رَاجَعْتُ امْرَأَتِي بِالْغَيْبَةِ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي الرَّجْعَةِ، وَكَذَا إِذَا قَال: رَدَدْتُكِ أَوْ أَمْسَكْتُكِ ".
وقد قام الفقهاء بتقسيم الألفاظ التي تصحّ بها الرّجعة إلى قسمين، هما:
- الألفاظ الصّريحة: مثل راجعتك، وارتجعتك إلى نكاحي، وتصحّ الرّجعة بهذا القول، وهو غير محتاج إلى نيّة.
- الكناية: وهي قول الألفاظ التي تحمل معنى الرّجعة، ومعنى آخر كذلك، مثل أن يقول: أنت عندي كما كنت، أو أنت امرأتي، ونوى بذلك القول الرّجعة. ولذلك فقد قال الفقهاء بأنّ هذا النّوع من الرّجعة يحتاج إلى نيّة، ولا يصحّ بدونها، لأنّ الألفاظ هنا تحمل أكثر من معنى واحد.
وقد اختلف الفقهاء في ألفاظ مثل: رددتك، وأمسكتك، وذهب فريق من المالكية والشّافعية إلى أنّها جزء من ألفاظ الكناية، وبالتالي طلبوا فيها وجود النّية. وقد ذهب فريق آخر من المالكية والشّافعية، بالإضافة إلى جمهور الحنفيّة والحنابلة، إلى أنّ هذين اللفظين هما من صريح الرّجعة، وبالتالي لا حاجة إلى النّية فيهما. (1)
الرجعة بالفعل
يرى الحنفيّة أنّ الجماع ومقدماته تصحّ بهما الرّجعة، حيث جاء في الهداية:" قَال: أَوْ يَطَؤُهَا، أَوْ يَلْمَسُهَا بِشَهْوَةٍ، أَوْ يَنْظُرُ إِلَى فَرْجِهَا بِشَهْوَةٍ، وَهَذَا عِنْدَنَا "، وصرّح الحنفيّة بأنّه لا يكون النّظر إلى شيء من جسد الزّوجة إلا فرجها رجعةً.
وإنّ الأفعال سواءً أكانت صريحةً أم لها دلالات فإنّها تدلّ على نيّة الفاعل، فإذا قام الرّجل بوطء زوجته المطلقة رجعيّاً وهي في عدّتها، أو قبّلها بشهوة، أو لمسها بشهوة، اعتبر فعله هذا رجعةً بالدّلالة، فكأنّه بوطئها رضي أن تعود إلى عصمته.
وقد قيّد الحنفيّة كلّ هذه الأفعال بالشّهوة، أمّا إذا كان كلّ ذلك الفعل من غير شهوة فإنّ الرّجعة لا تتحقّق عندهم. وفي حال حدثت هذه الأفعال من المرأة، كأن تقوم بتقبيل زوجها، أو لمسه بشهوة، أو النّظر إليه بشهوة، فإنّ الرّجعة تصحّ عند كلّ من أبي حنيفة ومحمّد.
ويرى المالكيّة أنّ هذه الافعال كالوطء مثلاً تصحّ بها الرّجعة شرط أن تقترن بنيّة الزّوج وهي الرّجعة، فإذا قام الزّوج بأيّ من هذه الأفعال دون أن تكون لديه نيّة الرّجعة فإنّ الرّجعة لا تصحّ، وأمّا عند الشّافعية فإنّ الرّجعة لا تصحّ بالأفعال مطلقاً، مثل الوطء أو مقدّماته، وسواءً أكان الزّوج ينوي بذلك الرّجعة أم لا، وقولهم في ذلك أنّ المرأة تعتبر أجنبيّةً عن زوجها في حالة الطلاق الرّجعي ولا يحلّ له أن يطأها، وكما أنّ عقد الزّواج لا يصحّ إلا بالقول الذي يدلّ عليه، فإنّ الرّجعة لا تصحّ إلا بالقول الذي يدلّ عليها. أمّا الحنابلة فقد فرّقوا في صحّة الرّجعة بين الوطء وبين مقدّماته، حيث أنّ الرّجعة عندهم تصحّ بالوطء ولكنّها لا تصحّ بمقدّماته. (1)
رجعة الزوجة من غير دخول
في حال أراد الزّوج أن يطلق زوجته قبل أن يدخل بها، فإنّه لا يوجد عليه حرج في ذلك، وفي هذه الحالة فإنّ المرأة لا تكون لها عدّة، قال تعالى:" يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحاً جميلاً "، الأحزاب/49.
وفي حال حدوث مثل هذا الطلاق قبل الدّخول فإنّ المهر يجب أن ينتصف بين الزّوجين، وهذا يشمل المقدّم والمؤخّر، قال تعالى:" وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم "، البقرة /237.
ومن المستحبّ أن يعفو واحد من الزّوجين عن النّصف الآخر لصاحبه، وهذا كله يتمّ في حال عدم دخول الزّوج بزوجته، أو خلوته بها خلوةً يمكن له فيها الوطء عادةً، لأنّ الخلوة الصّحيحة تحمل حكم الدّخول على الرّاجح من أقوال الفقهاء، وذلك إذا ثبتت بإقرار من كليهما، أو بالبيّنة، وبالتالي يكون للزوجة جميع الحقوق مثل المدخول بها، ولها جميع المهر، وعليها العدّة إن طلقت، ولها النّفقة من حين الخلوة بها إلى حين انتهاء عدّتها.
ومن حيث النّفقة فإنّه لم يدخل بها، ولم يخل بها خلوةً شرعيّةً، فإنّه لا تجب عليه النّفقة، إلا في حال أنّها كانت قد مكّنت الزّوج من الدخول بها، ولو حكماً، فإنّ النّفقة هنا تجب بها على الزّوج من حيث التّمكين. (2)
شروط رجعة الزوجة
يشترط لأن تكون الرّجعة صحيحةً عدّة شروط، من أهمّها: (1)
- أن تتمّ الرّجعة بعد طلاق رجعيّ، سواءً أكان الطلاق صادراً من الزّوج أو من القاضي، إلا في حالة بينونة المرأة بينونةً كبرى، فإنّ لذلك أحكاماً خاصّةً مختلفةً، والفقهاء جميعاً متّفقون على هذا ولم يختلفوا فيه.
- أن تتمّ الرّجعة بعد الدّخول بالزّوجة التي طلقت، فإذا طلقها قبل الدّخول بها وأراد أن يرجعها فلا يحقّ له ذلك، وهذا بالاتفاق، لقوله تعالى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْل أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً "، الأحزاب/49. ولكنّ الحنابلة اعتبروا الخلوة الصّحيحة في حكم الدّخول من حيث صحّة رجعة المطلقة، وذلك لأنّ الخلوة تترتّب عليها مجموعة من الأحكام مثل أحكام الدّخول، وأمّا في المذهب المالكي، والشافعي، والحنفي، فإنّ الخلوة لا تكفي ويجب أن يتمّ عندهم الدّخول.
- أن تكون المرأة المطلقة لازالت في فترة عدّتها، وفي حال انقضت عدّتها فلا يصحّ ارتجاعها، قال تعالى:" وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ "، ثمّ قال تعالى:" وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ "، أي خلال هذه الثّلاث قروء.
- أن لا تكون الفرقة التي حدثت قبل الرّجعة ناتجةً عن فسخ لعقد النّكاح.
- أن لا يكون الطلاق بعوض، وفي حال كان كذلك فإنّ الرّجعة لا تصحّ، لأنّ الطلاق حينها يكون بائناً لأنّ المرأة قد افتدت نفسها من الزّوج من خلال تقديم عوض ماديّ ينهي علاقتهما، مثل الخلع، أو الطلاق على مال.
- أن تكون الرّجعة تامّةً ومنجزةً، فإنّه لا يجوز أن تكون معلقةً على شرط، أو إضافتها إلى زمن مستقبل.
المراجع
(1) بتصرّف عن الموسوعة الفقهية الكويتية/ وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية- الكويت.
(2) بتصرّف عن فتوى رقم 1955/ ما تستحقه المطلقة قبل الدخول بها/ 18-3-2004/ مركز الفتوى/ إسلام ويب/ islamweb.net