مقدمة
إنّ المتأمّل في سير الأنبياء والمرسلين وحياتهم لَيَجِدُ من أمْر الإبتلاء لهم عجباً؛ فهم أشَدُّ البشريةِ ابتلاء وامتحانا ،وفي الحديث( عَنْ سَعْد بن أبي وقاص رضي الله عنه قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاءً ؟ قَالَ : الأَنْبِيَاءُ ، ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلاؤُهُ ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ)، لله در الأنبياء مُحِصُو في الدنيا فما كان منهم إلا الرضا بقضاء الله وقدره، وتكالبت عليهم الدنيا، فما كان منهم إلا الإستعانة بالله عز وجل، فكلما ابتلاهم تقربوا منه وهربوا إليه سبحانه، ويُخْطِأُ الكثيرون إذا ظنّوا أنّ ابتلاء الأنبياء كان لأخطاء ارتكبوها عقوبة لهم، كما ورد في قصة أيوب عليه السلام، فهذا في غير حق الأنبياء، أمّا الأنبياء فقد ابتلاهم الله لِحِكَمٍ كثيرةٍ غيرِ العقوبة.
صبر أيوب عليه السلام
ضرب الله عز وجل في كتابه العزيز مثلا بنبيِّه أيوب عليه الصلاة والسلام في الصبر على البلاء، فقد أعطاه الله من المال والبنين الكثير، فأمّا البنون فقد أماتهم الله عز وجل، وأمّا الأموال فقد مُحِقَت حتى لم يبقى منها شيء، وأمّا جسد أيوب عليه السلام فقد ذهبت قوته، وأصابته البلايا والأمراض الشديدة حتى وصل به الحال إلى نفور الجميع عنه، وأمّا زوجته فصبرت، واحتسبت، وقامت على خدمته، فقد كانت تأتيه بالطعام من شغلها، ثم ترك الناس استعمالها بالخدمة خوفاً من عدوى المرض، فضاقت بها الحال حتى قامت ببيع ضفائر شعرها لشراء الطعام لنبي الله أيوب، فما كان منه إلا أن حلف عليها أن لا يذوق الطعام حتى تخبره من أين أتت بثمنه، فكشفت عن رأسها، فلمّا رآه حليقاً توجه إلى ربه قائلا "إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين"، لله دره! فقد دعا ربه بعد سنين طويلة، لم يرفع يديه لله فيها لصرف عنه السوء الذي أصابه ، استنكر على نفسه أن لا يصبر على بلاء الله عز وجل، فجاءه الفرج من الله بأن يضرب رجله بالأرض ،فأخرج له من الأرض ينبوعا اغتسل به وشرب منه، فأبدله الله المرض بالصحة والعافية ، وآتاه الله ضعف ما قد فقده، وجعل له مخرجاً ليوفي بنذره الذي نذره بأن يضرب إمرأته لبيعها شعرها.