درجات الحب في الاسلام
حظيت المحبة بأهمية وفائدة بالغة عند العرب، حتى قال بعضهم:
"وما الناس إلا العاشقون ذوو الهوى ولا خير فيمن لا يحق ويعشق".
وقال آخر:
"إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى فأنت وعير في الفلاة سواء".
ولما كان للمحبة من الأهمية وفائدة فقد تجاوز العلماء حد تناول كلمة (الحب) بالشرح والتحليل، فأخذوا يتتبعون اسماءها ومراتبها مسترسلين في شرحها وبيانها، قال ابن قيم الجوزية رحمه الله، وقد تناول الحديث عن الحب ومراتبه واسمائه في العديد من مؤلفاته، قال في (روضة المحبين ونزهة المشتاقين) مبرراً كثرة أسماء المحبة: "لما كان الفهم لهذا المسمى أشد، وهو بقلوبهم (أي العرب) أعلق، كانت أسماؤه لديهم أكثر، وهذا عادتهم في كل ما اشتد الفهم له، أو كثر خطورة، على قلوبهم، تعظيماً له، اهتماماً به، أو محبة له، فالأول كالاسد والسيف، والثاني كالداهية، والثالث كالخمر، وقد اجتمعت هذه المعاني الثلاثة في الحب، فوضعوا له قريباً من ستين اسماً وهي: المحبة والعلاقة والهوى، وقد ذكر له أسماء غير هذه ليست أسماءه، وإنتعرف على ما هى من موجباته وأحكامه فتركنا ذكرها".
وقال لسان الدين بن الخطيب رحمه الله: "فإن العرب إذا اهتمت بشيء وعظمت عنايتها به، كثرت في لسانها أسماؤه كالسيف والخمر".
وقال ابن أبي حجلة رحمه الله، مشيرأ إلى أهمية وفائدة المحبة وعظم شأنها مما أدى إلى كثرة اسمائها ومراتبها" من المعلوم أن الشيء إذا كان عند العرب عظيماً وخطره جسيماً كالهزير والرمح والخمر والسيف والداهية والمحبة المحرقة، وما أدراك ماهيه، وضعوا له أسماء كثيرة، وكانت عنايتهم به شهيرة، ولا شيء يعدل اعتناءهم بالحب الذي يسلب اللب".
ونلحظ إذا تتبعنا أقوال العلماء في مراتب المحبة ودرجاتها اتفاقهم على أن للحب أسماء ومراتب عديدة، إلا أن أقوالهم تعددت في بيان الحب ومراتبه، وإن من أبرز من شرح الحب وأسماءه ومراتبه، على سبيل المثال لا الحصر.
1- محمد بن داود الأصبهاني الظاهري، رحمه الله (ت297هـ) حيث أنه ذكر في كتابه (الزهرة) مراتب المحبة التي تبدأ بالاستحسان الذي يقوي فيصير مودة فحلة فهوى فعشق فتتيم فوله".
2- الشيخ محيي الدين بن عربي، رحمه الله (ت638هـ) شرح أربعة ألقاب لمقام المحبة وهي: الحب والود والعشق والهوى
3- عبد الرحمن بن الدباغ الأنصاري رحمه الله (ت696هـ) قسم المحبة قسمين:
القسمة الأولى: قسمة بحسب جنس المحبة إذ تنقسم إلى محبة ذاتية ومحبة عرضية، فالذاتية هي التي يحب فيها المحبوب لذاته، منها ما يعقل سببه وهي محبة الجمال والكمال المطلق والمقيد، الظاهر والباطن، ومنها ما لا يعقل سببه وهي محبة الماسبة الخفية عن الأذهان. أما المحبة العرضية فهي التي يحب المحبوب لغيره لا لذاته، ومنها محبة الغحسان ومحبة الولد واولأهل والأصدقاء ومحبة المعلم والطبيب غلى غيبر ذلك.
القسمة الثانية: قسمة بحسب ذات المحبة، إذ يقسم ابن الدباغ المحبة بحسب ما في نفسها إلى عشرة أقسام مرتبة: خمسة منها مقامات المحبين السالكين وهي: الالفة ثم الهوى ثم الخلة ثم الشغف ثم الوجد، وخمسة مقامات للعشاق: أولها الغرام ثم الافتتان ثم الوله ثم الدهش ثم الفناء([1]). قال: "واسم المحبة يشتمل على الكل إلا أن المحب لا يخلو إما أن يستعمل المحبة أو أن تستعمله، فإن استعملها وكان له فيها كسب واختيار سمي محباً اصطلاحاً، وإن استعملته المحبة بحيث لا يكون له فيها كسب ولا اختيار ولا نظر لنفسه بما تصلحه فهو عاشق، فالمحب مريد والعاشق مراد".
ابن قيم الجوزية رحمه الله (ت751هـ) تناول الحديث عن الحب ومراتبه في العديد من مؤلفاته. ومنها (مدارج السكاكين) إذ تبين فيه أن أول مراتب المحبة هي: العلاقة ثم الإرادة ثم الصبابة ثم الغرام ثم الوداد فالشغف فالتعبد فالخلة، وعرف كل مرتبة بشكل مفصل.
هذه نماذج من أقوال العلماء من مراتب المحبة، والملاحظ فيها أنه في حين ذهب البعض إلى القول يكون تلك المراتب أنواعاً منطوية تحت جنس المحبة، ذهب البعض الآخر إلى القول بكونها أسماء وألقاباً للمحبة أكثر منها مراتب لها، والذين جعلوها مراتب لم يتفقوا على ترتيب واحد لها، فأول مراتب المحبة، بحسب تلك الأقوال، إما استحسان أو ألفة أو غرام أو علاقة او إرادة أو هوى أو ميل، وآخرها إما وله أو وجد أن فناء أو خلة أو تتيم أو هيام أو عشق، وبالرغم من ذلك الاختلاف في ترتيب مراتب المحبة إلا أن المتفق عليه أن الحب ليس مرتبة واحدة بل له عدة مراتب تضعف وتقوى بحسب حال كل محب، وتلك المراتب تبدأ ضعيفة بمجرد ميل أو إرادة أو استحسان مثلاً، ثم تقوى وتقوى إلى أن تصل إلى أعلى المراتب كالعشق والغلة والتتيم والتعبد والوله والفناء.
وقد ورد في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة عدة مراتب للمحبة وهي المراتب التي تهمنا في هذا المبحث وهي: الإرادة، الإلفة، الود، الهوى، الصبابة، الضلالة، الشغف، الوله، العشق، الخلة والتعبد.
وسنتعرض لبضعها فيما يلي:
1- الإرادة.
الإرادة لغة: المشيئة"، وأراد الشيء: شاءه، وراودته على كذا مروادة ورواداً أي: أرادته". وأراد الشيء أحبه وعني به". والإرادة تكون محبة وغير محبة.
وقال الراغب الأصفهاني رحمه الله الإرادة منقولة من راد برود: إذا سعى في طلب شيء، والإرادة في الأصل: قوة مركبة من شهوة وحاجة وأمل، وجعل اسما لنزوع النفس إلى الشيء مع الحكم فيه بأنه ينبغي أن يفعل أو لا يفعل، ثم يستعمل مرة في المبدأ وهو نزوع النفس إلى الشيء، وتارة في المنتهى وهو: الحكم فيه بأنه ينبغي أن يفعل أو لا يفعل، فإذا استعمل في الله فإنه يراد به المنتهى دون المبدأ، فإنه يتعالى عن معنى النزوع، فمتى قيل: أراد الله كذا، فمعناه: حكم فيه أنه كذا وليس بكذا، نحو (إن أراد بكم سوءاً أو أراد بكم رحمة) الأحزاب.
وعليه فإن معاني الإرادة لغة نزوع النفس إلى الشيء، بمعنى محبة الشيء والميل إليه، وهذا المعنى يستقيم إذا استعمل هذا اللفظ في المبدأ لا في المنتهى، ويستعمل في المبدأ والمنتهى بالنسبة إلى الإنسان، أما إذا استعمل في حق الله تعالى فيراد به المنتهى وهو الإرادة بمعنى الحكم في الشيء بأنه ينبغي أن يفعل أو لا يفعل أما استعماله في المبدأ في حق المولى عز وجل فلا يراد به البتة لتنزه الله سبحانه عن معنى النزوع والميل
الهوى:
الهوى لغة: "العشق يكن في الخير والشر وإرادة النفس". قال الراغب رحمه الله: "الهوى ميل النفس إلى الشهوة، ويقال ذلك للنفس المائلة إلى الشهوة".
ولأن الهوى يعني السقوط من العلو إلى السفل فقد قيل إن ميل النفس إلى الشهوة سمي هوى لأنه يسقط صاحبه إلى الهاوية، قال الراغب: "وقيل سمي بذلك لأنه يهوى بصاحبه في الدنيا إلى كل داهية وفي الآخرة إلى الهاوية والهوي سقوط من علو إلى سفل، وقوله عز وجل: (فأمه هاوية)، قيل هو مثل قولهم: هوت أمه أي ثكلت وقيل معناه، مقره النار، والهاوية هي النار"، ولعل نار جهنم سميت بالهاوية لأن أصحابها هم متبعون الأهواء فاشتق اسمها من الهوى، وهم كذلك يسقطون ولا يصعدون. والله تعالى أعلم.
وعرفه ابن عربي رحمه الله بأنه: "استفراغ الإرادة في المحبوب والتعلق به في أول ما يحصل في القلب"، وقد بين ابن عربي أن هذا اللقب من ألقاب مقام المحبة لا يطلق اسماص لله تعالى، وأن الهوى لا بد لحصوله من أسباب،قال: "وليس لله منه اسم، ولحصوله سبب: نظرة أو خير أو إحسان وأسبابه كثيرة".
الصبابة:
الصبابة لغة: "السوق أو رقته أو رقة الهوى، صببت كقنعت تصب فأنت صب وهي صبة"، وصبا إلى كذا صبابة: مالت نفسه نحوه محبة له، وخص اسم الفاعل منه بالصب، فقيل فلان صب بكذا".
والصبابة: "رقة الشوق وحرارته"، وقد سميت بذلك لانصباب القلب إلى المحبوب، بحيث لا يملكه صاحبه، كانصباب الماء في الحدور، ويقال: صباً وصبوة وصبابة، فالصبا: أصل الميل، والصبوة: فوقه، والصبابة: الميل اللازم وانصباب القلب بكلته، والصب: العاشق المشتاق.
والصبابة كمظهر من مظاهر الغرادة الحادثة كما جاء في كشاف اصطلاحات الفنون هي: "أخذ القرب في الاسترسال فيمن يحب، فكأنه انصب الماء إذا فرغ لا يجد بداً من الانصباب"، فالصبابة ميل القلب واشتياقه إلى المحبوب، سمي بذلك لانصباب القلب بكليته إلى محبوبه مما يترتب عليه الاسترسال في الميل والرغبة في المحبوب، ومن هنا يمكن أن نفهم التجاء سيدنا يوسف عليه السلام إلى الله تعالى راجياً منه أن يصرف عنه كيد النسوة ومخافة أ، يصبو إليهن أي يميل إليهن وذلك لأن من صبا إلى شيء فإنه يسترسل في ميله فيغرق في تحقيق مطالب ذلك الميل من الوصال المحرم، قال تعالى على لسان سيدنا يوسف عليه السلام: (قل رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين) 117 يوسف. وقد قال الراغب رحمه الله: "وصبا فلان يصبو صبواً وصبوة إذا نزع واشتاق وفعل فعل الصبيان، قال: (أصب إليهن وأكن من الجاهلين): أميل إليهن، يقال: صبا إلى اللهو يصبو صبواً إذا ما، واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن الإنسان لا ينصرف عن المعصية إلا إذا صرفه الله تعالى عنها".