خلقنا الله عزّ وجلّ من أجل أن نعبده حقّ عبادته، قال تعالى:" وما خلقت الجنّ والإنس إلّا ليعبدون "، الذّاريات/56، والحكمة من خلق الله عزّ وجلّ للموت تتمتّل في قوله تعالى:" الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ "، الملك/2.
وقد أخرج الطبري بسنده الحسن، عن قتادة، في قوله:" الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ "، قال:" أذلّ الله ابن آدم بالموت، وجعل الدّنيا دار حياة ودار فناء، وجعل الآخرة دار جزاء وبقاء "، وابتلاء الله عزّ وجلّ لابن آدم بخلق الموت والحياة وخلث الكون، إنّما الهدف والغرض منه هو تحقيق العبوديّة لله عزّ وجلّ. (1)
بماذا يشعر الميت في قبره
لقد اختلف العلماء في مسألة إذا كان الموتى يشعرون بالأحياء ويسمعون كلامهم وهم في قبورهم، فمنهم من أكّد ذلك، ومنهم من نفاه. وقد استدلّ أصحاب الرّأس الأوّل على رأيهم من خلال مجموعة من الأدلة، منها:
- ما ورد في الصّحيحين، أنّ النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - قال عن الميّت:" إنّه ليسمع خفق نعالهم إذا انصرفوا ".
- ما ورد في حديث خطاب النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - لقتلى بدر من المشركين، بعد أن تركهم ثلاثة أيّام:" يا أبا جهلِ بنَ هشامٍ! يا أميةَ بنَ خلفٍ! يا عتبةَ بنَ ربيعةَ! يا شيبةَ بنَ ربيعةَ! أليس قد وجدتم ما وعد ربّكم حقًّا؟ فإنّي قد وجدتُ ما وعدني ربي حقًّا، فسمع عمرُ قول النبيِّ - صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ - فقال: يا رسولَ اللهِ! كيف يسمعوا، وأنّى يجيبوا، وقد جيفوا؟ قال: والذي نفسي بيدِه! ما أنتم بأسمعَ لما أقول منهم، ولكنّهم لا يقدرون أن يُجيبوا، ثمّ أمر بهم فسُحبوا، فأُلقوا في قليبِ بدرٍ "، رواه البخاري ومسلم.
- ما ورد في الصّحيحين من غير وجه، أنّه - صلّى الله عليه وسلّم - كان يأمر بالسّلام على أهل القبور، فيقول:" قولوا: السّلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون ".
وقد اختلف أيضاً القائلون بسماع الموتى، فمنهم من قال أنّهم يسمعون مطلقاً، ومنهم من قيّد هذا الأمر، قال تعالى:" إنّك لا تسمع الموتى "، النمل/80، فالمراد بذلك هو: سمع القبول والامتثال، وهذا اختيار الإمام ابن تيمية.
وقد أنكرت عائشة رضي الله عنها أن يسمع الموتى كلام الأحياء، وذلك احتجاجاً بقوله تعالى:" إنّك لا تسمع الموتى "، وبقوله تعالى:" وما أنت بمسمع من في القبور "، فاطر/22. وقد وافق عائشة رضي الله عنها في هذا القول جماعة من العلماء الحنفيّة، فقالوا:" بأنّ سماع أهل القليب للنبي معجزة، أو خصوصيّة للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وأمّا حديث:" يسمع خفق نعالهم حين يولون عنه "، فقالوا: بأنّ ذلك خاصّ بأول الوضع في القبر مقدمةً للسؤال جمعاً بينه وبين الآيتين ". (2)
نزول الميت إلى القبر وسؤاله
قال الله تعالى:" يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ "، إبراهيم/27. وقد روي في الصّحيحين من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه، عن النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - قال:" " يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ "، نزلت في عذاب القبر"، وزاد مسلم:" يقال له: من ربّك؟ فيقول: ربّي الله، ونبيّ محمّد، فذلك قوله سبحانه وتعالى:" يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ" "، وفي رواية للبخاري قال:" إذا أقعد العبد المؤمن في قبره أتي ثمّ شهد أن لا إله إلا الله، وأنّ محمّداً رسول الله، فذلك قوله:" يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ " ".
وقد خرّج الطبراني من حديث البراء بن عازب، عن النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - قال:" يقال للكافر: من ربّك؟ فيقول لا أدري، فهو تلك السّاعة أصمّ، أعمى، أبكم، فيضرب بمرزبة لو ضرب بها جبل صار تراباً، فيسمعها كلّ شيء غير الثّقلين ".
وعن أنس أن رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - قال:" إنّ العبدَ إذا وُضِعَ في قَبرِه، وتولّى عنه أصحابَه، وإنّه ليسمعُ قَرْعَ نعالِهم، أتاه ملكانِ، فَيُقعَدانِه فيقولانِ: ما كنتَ تقولُ في هذا الرجلِ، لمحمّدٍ صلّى الله عليه وسلّم، فأمّا المؤمنُ فيقولُ: أشهدُ أنّه عبدُ اللهِ ورسولُه، فَيُقالُ له: انظرْ إلى مقعدِكَ من النّارِ، قد أبدلك اللهُ به مقعدًا من الجنّةِ، فيراهما جميعًا، قال قَتادَةُ وذكر لنا: أنّه يُفْسحُ في قبرِه، ثمّ رجع إلى حديثِ أنسٍ، قال: وأمّا المنافقُ والكافرُ فَيُقالُ له: ما كنتَ تقولُ في هذا الرّجلِ؟ فيقولُ: لا أدري، كنتُ أقولُ ما يقولُ النّاسُ، فَيُقالُ: لا دَريتَ ولا تَليتَ، ويُضْرَبُ بِمَطارِقَ من حديدٍ ضربةً، فيصيحُ صيحةً، يَسمعُها من يليِه غيرَ الثقلين "، رواه البخاري. (3)
عذاب القبر ونعيمه
قال الله تعالى:" فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ "، الواقعة/83-95.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - قال:" من أحبَّ لقاءَ اللهِ أحبَّ اللهُ لقاءَه، ومن كرِه لقاءَ اللهِ كرِه اللهُ لقاءَه، قلنا: يا رسولَ اللهِ كلُّنا يكرهُ الموتَ؟ قال: ليس ذلك كراهيةَ الموتِ، ولكنَّ المؤمنَ إذا حضر جاءه البَشيرُ من اللهِ، فليس شيءٌ أحبَّ إليه من أن يكونَ قد لَقي اللهَ فأحبَّ اللهُ لقاءَه، وإنَّ الفاجرَ أو الكافرَ إذا حضر جاءه تعرف ما هو صائرٌ إليه من الشَّرِّ، أو ما يلقَى من الشَّرِّ، فكرِه لقاءَ اللهِ فكرِه اللهُ لقاءَه "، الترغيب والترهيب. (3)
زيارة الموتى والاتعاظ بهم
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - قال:" ألَا وإنِّي كُنْتُ نهَيْتُكم عن زيارةِ القبورِ فزُوروها، فإنَّها تُزهِّدُ في الدُّنيا وتُرغِّبُ في الآخرةِ "، صحيح ابن حبّان. وخرّج الإمام أحمد من حديث أنس، أنّ النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - قال:" إنّي كنت نهيتُكم عن ثلاثٍ، ثمّ بدا لي فيهنَّ، نهيتُكم عن زيارةِ القبورِ، ثمّ بدا لي أنّها تُرِقُّ القلبَ، وتُدمِعُ العينَ، وتُذكِّرُ الآخرةَ، فزوروها ولا تقولوا هجْرًا ". وخرّج مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال:" زار النبيُّ - صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ - قبرَ أُمِّه، فبكى وأبكى مَن حولَه، فقال: استأذنتُ ربِّي في أن أستغفرَ لها فلم يُؤذَنْ لي، واستأذنتُه في أن أزورَ قبرَها فأَذِنَ لي، فزوروا القبورَ، فإنّها تُذَكِّرُ الموتَ ".
وعن عطاء السّلمي أنّه كان إذا جنّ عليه الليل خرج فوقف على القبور، ثمّ قال:" يا أهل القبور متم فواموتاه، ثمّ بكى، ثمّ قال: يا أهل القبور عاينتم ما علمتم، فوا عملاه، ثمّ يبكي، فلا يزال كذلك حتّى يصبح ". وعن علي بن أحمد قال: كان الأسود بن كلثوم يخرج إلى المقابر إذا هدأت العيون، فيقول:" يا أهل الغربة والتربة، يا أهل الوحدة والبلى "، ثمّ يبكي حتّى يطلع الفجر، ثمّ يرجع إلى أهله. وعن ثابت البناني قال: دخلت المقابر فقلت: يا أهل القبور، فلم يجبني أحد، ثمّ قلت: يا أهل القبور، فلم يجبني أحد، ثمّ أجاب عقلي: نحن مثلك كنّا، وأنت وكما نحن تكون.
خرّج الإمام أحمد، والترمذي، والحاكم، من حديث ابن مسعود، عن النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - قال:" استَحْيُوا من اللهِ حقَّ الحياءِ، قال: قلنا: يا نبيَّ اللهِ إنَّا لنستحيي والحمدُ للهِ، قال: ليس ذلك، ولكنَّ الاستحياءَ من اللهِ حقَّ الحياءِ أن تحفَظَ الرَّأسَ وما وعَى، وتحفَظَ البطنَ وما حوَى، ولتذكُرِ الموتَ والبِلَى، ومن أراد الآخرةَ ترك زِينةَ الدُّنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من اللهِ حقَّ الحياءِ ". (3)
المراجع
(1) بتصرّف عن فتوى رقم 130791/ الحكمة من خلق الموت والحياة/ 3-1-2010/ مركز الفتوى/ إسلام ويب/ .islamweb.net
(2) بتصرّف عن فتوى رقم 4276/ من أحوال الميت في قبره./ 11-5-2000/ مركز الفتوى/ إسلام ويب/ .islamweb.net
(3) بتصرّف عن كتاب أهوال القبور وأحوال أهلها إلى النشور/ زين الدين عبد الرحمن الدمشقي الحنبلي/ دار الغد الجديد- المنصورة/ الطبعة الأولى.