يتحدّث أهل السّياسة كثيرًا في محاوراتهم وندواتهم عن شعرة معاوية، وهذه الشّعرة ليست إلا تعبيرًا عن سياسة حكم وتعامل مع النّاس، فقد كان معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه من دهاة العرب حيث استطاع حكم الشّام لفترةٍ ناهزت الأربعين سنة، وقد ثبّت أركان حكمه في وقت كانت جزيرة العرب والعراق تموج بالفتن المتلاطمة، حيث دبّ الخلاف بعد مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه غدرًا من قبل جماعة من الأوباش الذين ثاروا على الخليفة وحاصروه في بيته حتى قتلوه، وقد كان معاوية بن أبي سفيان من أقرباء الخليفة الذين تزعّموا حركة تطالب بالثأر لدم عثمان، وقد خطّط معاوية لذلك وهو والي على الشّام، وقد نشبت بسبب ذلك حرب بينه وبين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه والذي كان خليفة المسلمين وأميرهم والذي كان يرى أن تستتبّ الأمور في الدّولة ثمّ يقتص من قتلة عثمان.
وإنّ أصل عبارة شعرة معاوية تعود إلى يومٍ كان معاوية يستمع فيه إلى رأي أعرابي تساءل عن سرّ بقاء واستمرار معاوية في حكم الشّام لفترةٍ طويلة على الرّغم من الفتن المحيطة بمن حولها، فكان ردّ معاوية أنّ بينه وبين شعبه شعرة إذا شددتها أرخاها شعبي، وإذا أرخيتها شدّها شعبي، وما هذا القول إلا تعبيرٌ عن حالةٍ سياسيّة حيث يكون التّوافق بين الوالي أو الحاكم وشعبه توافقًا كبيرًا بحيث يصبر كلّ طرفٍ على الآخر، وقد أصبحت تلك المقولة من مبادىء السّياسة الحكيمة من قبل الحاكم اتجاه رعيّته، ذلك بأنّ سياسية الرّعية تحتاج كثيرًا من الحنكة والحذاقة والكياسة، وانّ الحاكم لا يستطيع أن يتعامل بمنظورٍ واحد مع شعبه، بل عليه أن يفهم شعبه واحتياجاته، وأن يسعى لتلبية مطالبهم بحسب قدرته واستطاعته.
وإنّ هذا المبدأ ينطبق على علاقات النّاس بعضهم البعض في الحياة، ففي الحياة الزّوجيّة مثلًا تقتضي الحكمة من الزّوج أن يصبر على زوجته إذا رأى منها ما يكره، وإذا غضبت زوجته عليه أن يتحلى بالحلم ويمتصّ غضبها، وأن تعامله بنفس الطّريقة هي أيضًا حتّى تستمر الحياة الزوجيّة ويسير مركبها متحدّيًا العوائق والعقبات، وتنطبق تلك العبارة أيضًا على علاقة صاحب العمل بمرؤوسيه، بحيث يحقق التّوازن بينه وبينهم بدون إفراطٍ أو تفريط، وما دام همّ النّاس على الدّوام الوصول إلى الهدف فلا حرج من التّنازل حتّى تؤدّى أدوار الحياة بتكاملٍ وانتظام.