كان الرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم قدوة حسنة في العمل والاعتماد على النفس، حيث عمل قبل البعثة بالرعي والتجارة، ثم شغلته الدعوة إلى دين الإسلام بعد البعثة، فكان ينفق من مال زوجته خديجة، حيث قال صلّى الله عليه وسلّم: (وواستني بمالها إذ حرمني الناس)، وبعد الهجرة النبوية إلى المدينة فرض الله الجهاد في سبيله، فكفى الله نبيه العمل والكسب بما حلل له ولأمته من الفيء والغنيمة، وذلك احسن وأفضل المكاسب، حيث قال صلّى الله عليه وسلّم: (وجُعل رزقي تحت ظل رُمحي).
عمل الرسول في رعي الغنم
عمل الرسول صلّى الله عليه وسلّم ومن سبقه من الأنبياء في رعي الأغنام، وكان ذلك في سن مبكرة منذ بلغ الثامنة حتى الخامسة عشر من عمره، ثم بدأ يشتغل مثل غالبية أهل مكة بالتجارة، فقال صلّى الله عليه وسلّم: (ما بعث الله نبياً إلّا رعى الغنم، فقال أصحابه: وأنت يا رسول الله؟ وأنا رعيتها لأهل مكة على قراريط).
يعدّ العمل في رعي الغنم وسيلة للرزق، حيث تجعله قادراً على الاستغناء عما في أيدي الناس وعدم الاعتماد عليهم، فترتفع مكانته، حيث يخلص العمل لله، ويبتعد عن شبه الطغاة التي تشكك في غاية الأنبياء من دعوتهم، وتبين أنهم أرادوا بذلك الدنيا، فيرد الأنبياء أن مرادهم رضا الله، وأن أجرهم على الله، وأيضاً الكسب باليد يعطيه الحرية، والقدرة على قول الحق بلا خوف أو تردد أو قيود؛ حتى لا يكون لأحد من الناس عليه فضل؛ فيقيده ويمنعه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعن قتادة: (كان القوم يتبايعون ويتاجرون، ولكنهم إذا نابهم حق من حقوق الله لم تلههم تجارة ولا بيع عن ذكر الله حتى يؤدوه إلى الله)، وعن عائشة: (كان أصحاب الرسول صلّى الله عليه وسلّم عمال أنفسهم). يرى البعض أن عمل الرسول صلّى الله عليه وسلّم في الرعي علمه طريقة قيادة المسلمين ورعايتهم، وهذا مبالغ فيه؛ لأن كثيراً من الناس رعوا الغنم ولم يصبحوا قادة، وكثيراً من القادة لم يمارسوا حرفة الرعي.
العبرة من رعي الرسول للغنم
- الكسب: لم تكن غاية الرسول صلّى الله عليه وسلّم من رعي الغنم الكسب والرزق فقط، وإنّما كان وسيلة تربوية له ولأمته، تبين أن حكمة الله من ذلك هو العلم أن خير المال من تعب الانسان وعرق جبينه، فعندما أحس -عليه الصلاة والسلام- بأنه قادر على العمل، والاعتماد على نفسه، وأن يأكل من عمل يده، في الوقت الذي كان فيه محاطاً برعاية عمه الكاملة، حتى أقبل يشتغل ويساعد عمه، وهذا يدل على الإحساس الذي فطر الله عليه نبيه، فلم يكن من الصعب أن يهيئ الله لنبيه كل ما هى اسباب الراحة والرفاهية التي تغنيه عن رعي الغنم.
- الخلوة ومناجاة الله يبعث على النفس الهدوء والراحة والطمأنينة.
- الرعي في الصحراء يتيح التفكر والتأمل في مظاهر خلق الله، والاستمتاع بجمالها.
- الصبر على المشاق: يتطلب رعي الغنم العمل في الصحراء لفترة طويلة من طلوع الشمس حتى غروبها، والتعرض للحراة الشديدة والعطش الشديد وخشونة الطعام، خاصة في صحراء الجزيرة العربية، وكذلك الصبر على بطء حركة الغنم، وتشتت أماكنها بين متقدم ومتأخر عن القطيع، فإن كان الراعي صابراً متمكناً قادراً على جمعها بعد شتاتها بدون أن يلحقها أذى أو أن ينقص غذائها، فتبقى مجتمعة تخشى من عصا الراعي، فينبغي على راعي الغنم أن يتحمل هذه الظروف القاسية، ويتعايش معها.
- اليقظة والانتباه: ينبغي أن يكون شديد الحرص على عمله من خلال الوعي لما يحدث من حوله؛ وذلك لأن الغنم كثيرة الحركة سريعة الجري تنفر بسرعة، فإذا غفل الراعي عنها هربت منه، وصعب عليه إعادتها إلى مكانها، فتكون معرضة للافتراس ومهددة بالضياع .
- الحرص على سلامتها باللجوء الى أماكن الزرع والماء، والابتعاد عن أماكن الخطر.
- الشجاعة والقدرة على حماية قطيع الغنم عند تعرضه لأي هجوم من الحيوانات المفترسة.
- حسن السياسة؛ لأنّ رعي الغنم يحتاج إلى سلامة صدر وراحة بال، والقدرة على التعامل مع أي طارئ.
- الأمانة: فهو أمين على قطيع الغنم، فلا يشرب منها لبناً، ولا يرعاها في أماكن لا ماء فيها ولا زرع، ولا يبيع منها ويدعي أنها ضاعت، وإلا كان خائناً.
- الرحمة والعطف: فالرحيم بالحيوان يكون أشد رحمة بالإنسان، وطبيعة عمل الراعي مساعدة الغنم، والعطف عليها عند إصابتها أو مرضها، فمنها الصغير والكبير والضعيف، فيتطلب ذلك اللين والرأفة بها حتى تلحق بالقطيع.
- التواضع: قال صلّى الله عليه وسلّم: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر)، حيث إنّ من طبيعة عمل الراعي حراسة الغنم، والقيام على أمرها من أكل وشرب ونظافة، وتحمل ذلك دون ضجر، خاصة إذا أصابه روث الأغنام وبولها، فذلك يكسر النفس، ويبعد عنها الكبر.
العمل في التجارة
كانت أول رحلة يخرج فيها الرسول صلّى الله عليه وسلّم في التجارة الى الشام، عندما كان عمره تسع سنوات، فطلب من عمه مرافقته، فوافق وأخذه معه، وعندما أصبح شاباً قوياً، وبلغ عُمره العشرين، شاركه في التجارة رجلاً اسمه السائب، حيث كان يقول عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: (نعم الشريك لا يُداري ولا يُماري).
اشتهر الرسول -صلى الله عليه وسلم بالصدق والأمانة-، حتى وصفته قريش بالصادق الأمين، وكان في مكة سيدة أرملة اسمها خديجة بنت خويلد، تزوجت اثنين من سادة قريش، ثم ماتا عنها، فكانت أكثر النساء جمالاً ومالاً، ولإدارة تجارتها الكبيرة كانت تستأجر الرجال عن طريق المضاربة، أي تجعل لهم نسبة من الربح يتفقون عليها، كان أكثر ما يهمها هو الالبحث عن رجل أمين يحافظ على مالها، فسمعت عن الصادق الأمين، فأرسلت إليه، ثم عرضت عليه أن يخرج بتجارتها إلى اليمن، فوافق الرسول صلّى الله عليه وسلّم على عرضها، وخرج ثلاثة مرات بتجارتها إلى اليمن، وكان معه ميسرة -وهو غلام عبد عند خديجة- في كل رحلة تجارية، فأحب ميسرة النبي صلّى الله عليه وسلّم من مواقفه لما عرف من حسن أخلاقه، وكان يحدّث سيدته خديجة عن ذلك، فوجدت في مالها البركة التي لم تجدها من قبل. بعد عودة الرسول -صلى الله عليه وسلم من الشام- لم ينقطع عن التجارة، حيث كان يتاجر في أسواق مكة القريبة، مثل: سوق عكاظ، مجنة، وذي المجاز، حيث لم تكن التجارة غايته إلا من أجل قوت يومه.
العبرة من عمل الرسول في التجارة
- كان عمل الرسول صلّى الله عليه وسلّم في التجارة بداية مهمة في صقل شخصيته وتميزه بالمرونة؛ لأنه سيتعامل فيما بعد مع عدد كبير وأصناف مختلفة من الناس.
- استفاد الرسول صلّى الله عليه وسلّم خبرة من الاختلاط بالتجار، خاصة كبار السن، وفتح المجال أمامه للنقاش، وحل المشاكل وعيوب بين الخصوم، وسماع الآراء، والتعقيب عليها، والاستفادة من المسابقات الشعرية.
- حصل النبي صلّى الله عليه وسلّم من هذه التجارة على فوائد عظيمة لم تقتصر على الأجر، حيث مر بالمدينة المنورة التي هاجر إليها، وكانت مركز دعوته، والبلاد التي فتحها ونشر فيها دينه فيما بعد، وأيضاً كانت سبباً في زواجه صلّى الله عليه وسلّم من السيدة خديجة -رضى الله عنها-.