الصحابة الكرام هم خير أمة محمد، فهم عاصروا الحبيب -صلى الله عليه وسلم-، تعلموا سنته، واقتفوا أثره، حتى لمعوا إلى عنان السماء، فأصبحوا نجوماً، ومنارات كالثريا، بهم نقتدي، ومنهم نستقي كثيراً من الأمور التي تخفى علينا، فهم سنة لسنة الذي لا ينطق عن الهوى.
وكتعرف ما هو الحال، فمن هؤلاء الصفوة، كان صفوة الصحابة، فأصبحوا صفوة الصفوة، وقمة القمم، وعظماء العظماء، حتى برزوا وأصبحوا دليلاً، يشار إليهم بالبنان إلى يومنا هذا.
ومقالنا هذا يفخر بالكتابة عن عظيم منهم، هو حبر هذه الأمة، وهو الفتى العلامة بين الكهول، حتى لقب بفتى الكهول، وهو أيضاً ترجمان القرآن ومفسره، فقد برع في ذلك، حتى أصبح العمدة في زمانه.
إنه الصحابي الجليل عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي -صلى الله عليه وسلم-، الهاشمي، فتى قريش، ويلقب بأبي العباس. ولد هذا الصحابي الجليل في شعب أبي طالب، قبل الهجرة بسنين ثلاثة، حينما كان المسلمون محاصرون على يد قريش، فاستبشر الحبيب المصطفى لمولده، ودعا له بالخير.
كان -رضي الله عنه- ذا مظهر جميل، وشكل جميل، وقامة طويلة، وجسم مهيب، يتصف بكمال العقل، ورجاحته، وبلاغة اللسان، وفصاحته، ذكياً فطناً لماحاً، سريع البديهة، حتى أنه سمي بالحبر، والبحر لكثرة ما تعلمه من معارف وعلوم.
أسلم سراً في مكة، وقد كان من الولدان المستضعفين ؛ لأنه كان لا زال صغيراً حين الهجرة، فجاء مع أمه يوم فتح مكة معلناً إسلامه، وولائه للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد كان عمره يومها أحد عشر عاماً، وكان ذلك في السنة الثامنة من الهجرة، فصحب النبي -صلى الله عليه وسلم- من يومها، حتى موته -صلى الله عليه وسلم-، وكانت مدة ملازمته تلك ثلاثين شهراً فقط.
ورغم قصر المدة التي عاشها مع الحبيب المصطفى، إلا أنه يعد من أكثر الرواة رواية لحديث النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأكثرهم كذلك معرفة بمعاني الآيات وفهمها، ومعرفة معاني الأحاديث والآثار.
كان الحبيب المصطفى يحبه كثيراً، حتى أنه مسح على رأسه، ودعا له بأن يؤتى من الحكمة، وقد آتاها، فقيل إنه أعلم أمة محمد بما نزل على محمد، ومن ناحية أخرى يعتبر مدرسة واسعة في التفسير، فهو من أجل علماء التفسير ورواده.
حينما توفي النبي -صلى الله عليه وسلم-، كان عمره -رضي الله عنه- ثلاثة عشر عاماً على أرجح الأقوال، بمعنى أنه لا زال فتى صغيراً.
وقبل موت المبعوث رحمة للعالمين، حضر مجلساً مع عمر بن الخطاب، لعلماء الصحابة من الرجال، فلاموا عمراً بأنه يدنيه في المجلس، وهو لا زال فتى صغيراً، فقال لهم عمر: (سترون لماذا أدنيه منكم الآن، قولوا لي ما معنى قوله تعالى: "إذا جاء نصر الله والفتح"؟) ، فأجابوا بأنه النصر للمسلمين، وبمعنى ذلك، فقال لهم: (أخطأتم جميعاً، قل لهم يا بن عباس ما معنى هذه الآية؟) ، فأشار -رضي الله عنه- أنها تعني اقتراب أجل الحبيب -صلى الله عليه وسلم-، وكان هذا معناها فعلاً، فأصبح عمر يدنيه في كل مجالسه، ويناديه بفتى الكهول.
توفي -رحمه الله- في الطائف سنة 68 للهجرة، وعمره اثنان وسبعون عاماً.