تعددت مشارب البدع ، والإجتهادات والهرطقات في الديانةِ المسيحيّةِ منذ نشأتها ، شأنها شأن باقي الديانات ، وكان للمسيحيّةِ الحصة الأكبر منها ، خصوصاً تلك التي أطلقها كبار رجال الدين ، كالبدعةِ الآريوسيّة نسبةً إلى مطلقها آريوس ، والنسطورية نسبةً الى مطلقها نسطور ، ولعل أكثرها ضجةً وتأثيراً في تاريخ الكنيسة الحديث ، بدعة (صكوك الغفران) ، وهي عبارة عن منح قطعةً من أراضي الجنة ، تحسب للشاري من الكنيسة ، ومهما كانت ذنوبه أو أفعاله أو خطاياه ، تعتبر مغفورةً له ، والجنّة له بعقدٍ شرعيٍ كنسي ، فكانت هذه مفصلاً قاتلاً ، كونها صادرةً من أعلى رتبةٍ في الهرم الإكليريكي لدى الطائفةِ الكاثوليكيّة ، متمثلةً بـ (البابا) .
وتعتبر صكوك الغفران أو ما يعرف بـ ( أندولجنتيا ) ، بحسب معتقدات الطائفةِ الكاثوليكيّة المسيحية ، هي الصفح عن الخطايا التي يرتكبها الإنسان ، والإعفاء من العقاب بشكلٍ جزئيٍ أو كامل ، بعد قيام الشخص بالإعتراف للكاهن عن كلّ ذنوبه وآثامه ، وتوبته تتم بمنحه وثيقةً خطيًةً تؤكد الغفران له من الكنيسة ، مقابل أن يدفع مبلغاً من المال .
بدأت قصّة صكوك الغفران عندما أراد ( البابا لاون العاشر ) ، أن يبني كنيسة القديس بطرس في روما ، فأصدر هذه الصكوك ليبيعها ، ويجمع الأموال من أجل البناء ، ولكن وبسبب أن المندوب البابوي الخطيب ( حنا تنزل ) قد تفوّه بكلامٍ فيه الكثير من الوقاحةِ بحق السيدةِ العذراء ، والدة السيد المسيح ، بأن الخطيئةَ التي ارتكبها معها رجل ستمحى ، ويمنح الغفران كاملاً بهذه الصكوك !
ثارت ثائرة الكثيرين ، وخاصةً (مارتن لوثر) ، الذي كتب وثيقةً ضمت 95 حجةً ، يتهم فيها الكنيسةَ الكاثوليكيّةَ بالفساد ، وينتقد ممارسات وسياسات هذه الطائفة التي أساءت إلى مؤمنيها التابعين لها ، إن كان من الناحية النفسيّةِ أو الماديّة ، وأجريت المقارنات بين عقيدة مارتن لوثر الجديدة ، وبين هذه الكنيسة ، فحرّض لوثر بدوره الشعب بأن يتمردوا على الطائفة ، ويرفضوا صكوك الغفران وينبذوها ، وبالتالي شبت الخلافات والمواجهات بينه وبين البابا ، وعلّق سنة 1517م في الحادي والثلاثين من شهر أكتوبر وثيقته هذه على باب الكنيسة ، في مدينة ( فتبزج ) .
لم يوفق البابا ( لاون العاشر ) رغم كل محاولاته ، في ارجاع مارتن لوثر عن فكرته وتحريضه للشعب ، فباءت بالفشل كل مساعيه ، ولم يكن من المؤمنين المؤيدين للوثر ، إلا أنهم تزايدوا عدداً ، وازدادوا سخطاً على الكنيسة ، وعلى ممارساتها الخاطئة يوماً بعد يوم .