في موكب زاهٍ من الخضرة والروعة والبهاء انطلقت الطيور لتفتتح فصلَ الرقة والجمال، فصفق الجميع لهذا الحضور البهي، فصل لا تشابهه الفصول، حباه الله بذلك العطر الذي إذا ما نثره القدر على شرفات الأرض حتى استجابت بالسعادة والهناء، فصل الربيع هو الفصل الذي تغنيك إطلالته عن أن تتحدث، كفاك وأنت تبصر وتتفكر في الفراش وهو يداعب سنابل القمح وتراقص الورد في حضرتها لتفهم بأن الربيع هو فصل المرح والفرح والبهاء.
كانت السماء نائمة والقمر مختبئ من حدة الشتاء والنجوم تتوارى خشية الصقيع، وبينما الكل هكذا، إذا بنورٍ يسطع بالأرجاء لتطوي يده الحانية وجه الشتاء القاتم في سطوته وبرده وما يضفيه من سكون في حركة الكائنات الدائبة، سطع الربيع فرمى القمر منديله الأبيض المخطط بألوان الصقيع الموحشة، وطلت نجوم السماء لترى هل حقاً عاد الربيع، وبينما الكون نائم على شق الكسل إذا به ينثر عن جوانبه السبات وينتشي.
وأخيراً طرق ووسائل الربيع باب الجميع فخرجوا إلى زيارته البهية الرائعة تحتفي بالعودة التي غابت وتوارت منذ شهور، وبينما الجميع يحتفي إذ الطيور بحقائب الغياب البعيدة تعود بحقائب الإقامة الجديدة بين أطراف السماء الأنيقة المترامية في ركن ينتمي إلى حضن الأرض.
عادت الطيور واخضرّ الغصن وابتدأت الأفراح من جديد فيما وراء عالم الطبيعة الخلاّب، وما شرع به الإنسان من يقظة جديدة فالشواطئ مليئة بالصغار الذي يصافحون البحر، وعاشق يقتبس الحكايا من هدوء البحر مع الغروب لنسج قصيدته تلك لمحبوبته القمرية، فيالِنهاره ما أعبقه وليله ما أصفاه يحلو به السهر والسمر والقصائد والتنقل وكل شيء.
ما كنت أخشى وهو يصافح داخلي بأن نسيمه وحده لغة تحاور ما لم تحاورني به نفسي، وتحدثني بما أنا كنت أخفيه، يالِهذا المعطف الذي أتوشحه في هدأتي تلك، فأغيب وأسرح في غياباتي البعيدة وهدوئي خلف ذلك الغروب، الذي إذا ما حان رحيله سلّم على القمر الجميل وأعطاه موعده ليطل ويعلن أنه أتى، وأنا أشاهد لا أتجاهل قلبي الذي يعنّفني في رحيل من أحب وغيابه، دون أن يعلمني هل القمر وحده إذا ما أشرق سيبعث ماضيه الجميل أم أنني وحدي التي لقمرها الغياب ولقمر السماء بأن يسالمه اللقاء؟
جاء الربيع فهل عاد معه كل شيء، نعم عاد لكنه لم يعد معه نفسي الصغيرة التي تركتها تتأرجح فوق حقول التلال الجميلة، عاد الربيع وأنا ما عدت أعرف ما الذي يشابهني وما ليس كذلك، عاد الربيع وسيعود كأنه طيف يراودنا ويعانقنا من جديد، رغم كل شيء نحبه وسنبقى، فليس ثمة جنة أخرى أكثر عطاء من هذه الجنة الربيعية، لا شيء.
