غلبيةُ المتدخلين في شؤونِ الغيرِ يعانونَ من مشاكل وعيوب وعقد نفسية يريدون تفريغها علينا. منهم ايضا من يهوى التسلّط على الآخرين. ومنهم من يبحثُ عن اعترافٍ بقدراته المهنيه وتجربته الحياتية،ومنهم من لا يعرف اين تنتهي حدود منطقة نفوذه، ومنهم اناس غُلاظ لا يتقنون اصول التعامل مع البشر، ومنهم من فشلوا في حياتهم ويبحثون عن حقل تجارب جديد.
اعجب من اشخاص في كامل قواهم العقلية والبدنية يسمحون للغير ان يتدخلوا في ادارة شؤونهم وبالتاثير على قراراتهم ومساراتهم الحياتية. هل هم اناس مسلوبو الارادة؟ هل هم اشخاص عديمو الثقة بالنفس؟ ام انهم يبحثون عن مرفأ لترسو به نفوسهم الضائعة؟ ما لا شك به ان هنالك عطب ما قد اصاب هؤلاء الناس جعلهم يلتجئون الى هذه الحالة الانهزامية. برأيي، الحالة الاكثر مَرَضِيّة هي تلك التي تخص الناس الذين يتدخلون في شؤون الغير ويقتحمون حياتهم تحت غطاء القرابة او الصداقة بدون أي استئذان.
هنالك طبعا درجات متفاوته في مستوى التدخل في حياة الآخرين ابتداءً من مراقبة تحركاتنا ومن ثم القيام بالتفوه بملاحظات "ساذجة" او معاتبة او لاذعة، ومن ثم الى "اسداء المشورة" حول اللباس الذي يليق بنا وقصة الشعر التي تناسب تدويرة وجهنا، ومن ثم الى "توجيه النصيحة" حول الانسب والاحسن والاقوى والاكثر افادة لنا، وحتى التصدي لنا او اعلان الحرب علينا، ولا يُستبعد ان يقوم بعض من هؤلاء "الغزاة" بالتربّع يوما ما في صالوننا والدخول الى حجرات نومنا او مطبخنا وتحديد كمية الملح التي ينبغي رشّها على طعامنا.
لو حاولنا تحليل شخصيات "المتدخلين" في شؤون الغير لوجدنا ان اغلبهم يعانون من مشاكل وعيوب وعقد نفسية، والتدخل في شؤون الغير تعرف ما هو إلا تفريغ لأزماتهم وفشة خلق لمشاكلهم واحباطاتهم من الحياة. منهم ايضا من يهوى التسلط على الآخرين ومنهم من ينتظر الفرصة المواتية للانقضاض على الضعفاء. ومنهم من لديه رغبة لا ارادية بالتفوق، ومنهم من يالبحث عن اعتراف بقدراته المهنيه وتجربته الحياتية، ومنهم من لا يعرف اين حدوده وتعرف على ما هى منطقة نفوذه، ومنهم اناس غلاظ نسوا تعرف ما هو "الاتيكيت" وتعرف على ما هى اصول التعامل بين البشر، ومنهم من فشلوا في حياتهم وقراراتهم ويبحثون عن حقل تجارب جديد.
ولو حاولنا تحليل شخصيات الذين يسمحون للآخرين في التدخل في شؤونهم لوجدنا انها ايضا صعبة ومُقلقة وتتطلبُ المُعالجة. منهم من يقبل تدخّل الآخرين من باب الوحده والرغبة بالانضمام الى المجموعة وكسب محبتها ورضاها. منهم من يعاني من انعدام الثقة بالنفس والاتكالية وإلغاء الذات. منهم من يخاف من الفشل وتحمّل عواقبه لوحده فيالبحث عن شركاء ومناصرين له حين يقع. الطريف بالأمر انّ هنالك جاذبية خفية بين الشغوفين بالتدخل بشؤون الآخرين وبين الذين يسمحون للآخرين بالتدخّل في امورهم "كالطنجرة التي تجد غطاءها".
الناس الذين يرضوا بتدخّل الآخرين لا يفعلون ذلك عن وعي او موافقة، وانما "ينزلقون" الى هذه الحفرة دون ان يدركوا مدى عمقها وخطورتها، وبين بكرة وابيها يتحولون من اناس عاديين الى اناس منصاعين لأوامر "ومشورات" الآخرين بعد استغنائهم عن استقلاليتهم. من الغريب بالأمر ايضا انه يكون من بين المقتحمين لخصوصيتنا من نعدّهم كأعزّ الناس، كالأب الذي يختار لنا العروس المناسبة، والأخ الكبير الذي يختار لنا موضوع الدراسة المناسب والزوج الذي يُرغمنا على لبس الحجاب او خلعه، والحماة التي تتدخّل في تربية اولادنا ومستوى نظافة بيتنا.
للتدخّل في شؤون الآخرين يوجد ايضا بُعدٌ اقتصادي بالاضافة الى البُعدين الاجتماعي والنفسي. في بعض الاحيان قد تكون للمساعدة التي يقدمها الاهل للابناء اسقاطات سلبية على مدى استقلاليتهم، وترى الابناء يرضخون لتدخّل الأهل مجبرين لا مخيّرين، وعندما تقوم الحماة بحضانة الاولاد واطعامهم ريثما تعود امهم في ساعات المساء من اشغالها فهذا يُضعف احيانا من مكانة الكنة ويجعلها تتقبّل "تدخّلات" الحماة وتتحمّل ملاحظاتها اللاذعة لكونها "مدينة" لها بجميل عظيم. كذلك الأمر بالنسبة للطالب الذي يتلقى معونات مالية من ابيه والشخص الذي يستدين مبلغا كبيرا من صديقه.
اذا اردتم فهم طبيعة العلاقة بين المُتدخلين في شؤون الآخرين وبين "ضحاياهم"، تابعوا تدخّلَ دول قوية بشؤون دول ضعيفة كتدخّلَ الولايات المتحدة في العراق او باكستان وتدخل حلف "ناتو" في ليبيا وتدخّل سوريا في لبنان. هل لديكم أي شك "بالنوايا الحسنة" التي يضمرها "المتدخّلون" للبلدان التي طلبت منهم "المعونة". هل دَمًقرَطة الشعوب العربية وتحريرها هو ما يشغل بال امريكا واوروبا وحلف الناتو ام الهيمنة على الشرق الاوسط والاستيلاء على موارده وكسب تأييده السياسي وفرض عقليتها وقيمها؟!! بعبارة اخرى ضعفنا واستغاثتنا للمساعدة تجذب الينا "الغزاة" الطامعين بحريتنا ومواردنا.
لإعطاء الموضوع حقه ومنع الالتباس ينبغي التمييز بين التدخل الايجابي القصير الامد الذي يقوم به اهل الخير من اجل اصلاح ذات البين بين الاخ واخيه والزوج وزوجته وبين الاقارب والجيران المتخاصمين، وبين التدخل السلبي النابع من الفضولية والرغبة في السيطرة وابراز التفوق والهيمنة. من ناحية اخرى ان عدم التدخّل بالمرة يعتبر لامبالاة قد يكون ضررها اكبر بكثير. ان عدم تدخّل الاهل عند انحراف ابنائهم وعدم محاولة ايقافهم عند حدهم هو جرم عظيم. ان عدم تدخلنا حال سماعنا استغاثة زوجة مضروبة قد يُعرضنا الى اشكاليات قانونية غير محمودة.
باختصار، توجد حالتان سلبيتان للتدخل تقعان على طرفي سلم متدرج في طرفه الأول يوجد التدخل الزائد، وهي حالة مرضية شاذة موجودة عند قلة من الناس، وفي طرفه الثاني يوجد عدم التدخل المتطرف أو اللامبالاة "وهي حالة مرضية موجودة عند قلة من الناس أيضاً، وبين هذين الطرفين توجد درجات متفاوتة للتدخل بعضها تدخل إيجابي وسويّ ذو أهداف تربوية اجتماعية يحافظ على تماسك الجماعة، وبعضها الآخر سلبي غ