تغنى جار الله الزمخشري بمكة التي جاور فيها سنين عدداً، قائلاً:
أنـا الجار جـار الله مكة مركزي ومضرب أوتادي ومعقد اطـنابي.
ومـا كان إلا زورة نهضتني إلى بلاد بها أوطان أهلي وأحبابي.
فلمـا قـضت نـفسي -ولله درهـا- لـبانة وار زنـدها غـير هيابِ
كررتُ إلـى بطحـاء مكة راجـعا كأني أبو شبلين كر إلى الغابِ.
فـمَنْ يلقى في القُرَيّاتِ رَحْلــه فأمُّ القرى مُلْقَى رحالي ومُنْتَابي.
دأبت العرب على عدِّ كثرة الأسماء دلالة على عظم المسمى، قال الإمام النووي:" واعلم أن كثرة الأسماء تدل على عظم المسمى ....ولا نعلم بلداً أكثر أسماء من مكة والمدينة؛ لكونهما احسن وأفضل الأرض". ومكة المكرمة تعددت أسماؤها، فهي: مكة،بكة،أم القرى،البلد الأمين،أم رُحْم،الحاطمة.. ولها أسماء أُخَر. يعنينا منها -ها هنا- اسم مكة الذي ذكر في القرآن الكريم مرة واحدة في سورة الفتح، قال تعالى:" وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا".
وإذا ما راجعنا معاجم اللغة وجدنا كلمة مكة تدور حول: المَكّ الذي هو استخلاص الشيء واستقصاؤه واستنفاده. يقال: مَكَّ الفصيلُ ضرع أمه يَمُكُّهُ مّكَّاً وامْتكّه وتَمَككه، إذا لم يُبْقِ فيه من اللبن شيئاً إلا مصّه. ومكّ العظم: امتص ما فيه من المخ، والاسم المُكاك والمُكاكة وهو اللب والمخ الذي في وسط العظم. ومنه مكّ الغريم: إذا استقصى دينه وألحَّ في طلبه. ورد في الحديث:(لا َتتَمكَّكوا على غُرمائكم)،بمعنى:لا تستقصوا عليهم الدَّيْن وارفقوا بهم في اقتضائه،فانظِروهم إلى ميسرة.كما يأتي المكّ بمعنى الزحام.
بناء على ما سبق يمكن القول ان مكة عرفت بهذا الاسم؛لأنها وسط الدنيا كأنها لبها وخالصها،كما أن المخ لب العظم. وقيل:لأنها تَمُك الجبابرة فتذهب نخوتهم وتقصمهم،أو لأنها تمك الذنوب فتمحوها. وقيل:بل لازدحام الناس بها،فهم يؤمونها من كل مكان،كأنها تجذبهم إليها كما يجذب الفصيل اللبن.مصداقاً لدعوة سيدنا ابراهيم عليه الصلاة والسلام حين دعا:"فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ". وذكر أن أصل الكلمة من مكا يَمْكُو:إذا صَفَر. ومنه المُكاء،إذ كان العرب يَصْفِرون ويصفقون بأيديهم إذا طافوا بالكعبة، وكانوا يقولون:" لا يتمُّ حجُّنَا حتى نأتيَ مكان الكعبة فنَمُكّ فيه".أي:نصفر صفير المكاء. وهذا ما سجله القرآن الكريم في :"وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً".