ممّا لا شكّ فيه أنّ نعم الله تعالى على الإنسان لا تعدّ ولا تحصى، ومن بين تلك النّعم نعمةٌ عظيمة لا تعادلها نعمة، وهي نعمة البصر حيث أكرم الله تعالى الإنسان بأنّ جعل له عينان يبصر بهما طريقه، ويرى بهما النّاس، فبالعين تميّز النّاس وتعرف صاحبك من غيره، والعين هي رسالة المحبّين التي لا تحتاج نطق أو كلام، فهي أصدق تعبير عن المحبّة والصّدق والحنان، والعين هي الحارس الذي يحرس النّاس، وهي مصدر الدّمع الذي ينسكب على الخد خشيةً من الله تعالى أو تنفيساً عن مشاعر مكبوتة في الصّدر لا تنزاح إلّا بالعبرات.
وقد اشتهر عددٌ من النّاس عبر تاريخنا العربي بخصائص ميّزتهم عن خيرهم وكان من بين من تميّز في حاسة الإبصار إمرأة عاشت في منطقة نجد وتحديداً في بلدٍ تسمّى جديس من أرض اليمامة، وقد سمّيت هذه المرأة بزرقاء اليمامة نسبةً إلى المنطقة التي ولدت وعاشت فيها، وقد روي عنها رواياتٌ كثيرة منها ما كان مبالغٌ فيها ووصلت حدّ الأساطير، ومنها ما كانت روايات معتدلة تحدّثت عن إمراة ذات قدرة فائقة في الإبصار بحيث تستطيع رؤية الأشياء والنّاس من مسيرة ثلاثة أيّام، ولا غرابة في أن يكرم الله تعالى أحداً من البشر بهذه الخصائص فهو قادرٌ على كلّ شيء.
وقد كانت زرقاء اليمامة إمرأة مبجّلة في قومها ومحترمة بسبب قدرتها المتميّزة في الإبصار، وقد كان قومها يلجأون إليها في المهامّ الصّعبة حين يحتاجون إلى استطلاع العدو من بعيد، فقد سادت ولفتراتٍ طويلة بين القبائل العربية حروبٌ ومعارك امتدت لسنين طويلة، وبالتّالي كان وجود امرأة تمتلك قدرةً فائقة مثل زرقاء اليمامة في قبيلة مكسباً كبيراً لها يمكّنها من الحذر والاستعداد الدّائم لأعدائها.
وقد حصل يوماً أن أرادت قبيلة من قبائل جزيرة العرب الإغارة على قبيلة زرقاء اليمامة، وقد علموا مسبقاً بوجود زرقاء اليمامة بينهم ووصلتهم أخبارها وتناقلوا ما حدّثت به العرب عن قدراتها الفائقة، فاحتالوا لذلك بأن قاموا بخلع الأشجار من مكانها ليضعوها أمامهم حتى لا تستطيع زرقاء اليمامة رؤيتهم، وعندما قاموا بذلك رأتهم زرقاء اليمامة من بعيد وأخبرت قومها بما رأت، وعندما سمع القوم منها ذلك ظنّوا أنّها قد خرفت أو ضعف بصرها، إذ كيف يتصوّر العاقل أن تمشي الشّجر أو الجمادات، فلم يستجيبوا لها وكانت النّتيجة أن غزا الأعداء بلادها واستباحوها وأُتي بزرقاء اليمامة لتقلع عينها التي حوت كثيراً من الأسرار التي خلّدت اسمها في التّاريخ.