لم يجعل الإسلام مفهوم وتعريف ومعنى الوطنيّة مفهوماً قاصراً محدوداً ، فحين جعل بعض من تغنّى بالوطنيّة والقوميّة من هذا المعنى شعاراً لهم فاعتبروا أنفسهم قوميين وطنيين ، كان الإسلام قد سبقهم بمئات السنين بترسيخ هذا المعنى في نفوس المسلمين بل وقد جعله الإسلام مفهوماً شاملاً مرتبطاً بالعقيدة ، وقد كان الرّسول عليه الصّلاة والسّلام مثالاً للمحبّ لوطنه المنتمي له ، فقد نادى وطنه معبراً بلسان المحبّ عن محبته له حين خرج مهاجراً من مكّة فقال " والله إنّك لأحب البقاع إلى الله وأحبّ البلاد إلى ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت أبدا " ، فانتماء المسلم لوطنه مطلوبٌ شرعا ، فالمسلم حريصٌ على وطنه أشدّ الحرص فتراه يدافع عنه ضد أعدائه ويذود عن بيضته ، ويحرص على نظافة طرقه وساحاته ، فالوطنيّة هي مشاعر المحبة والولاء والعطاء التي يحملها الإنسان في قلبه اتجاه وطنه ويترجمها افعالاً واقعةً على الأرض .
وقد نهى الإسلام عن العصبيّة والقبليّة ودعوى الجاهليّة ، فقد كان الكفّار في الجاهليّة يفتخرون بقبائلهم وأنسابهم وربما حصلت بينهم الحروب الضروس لأجل ذلك ، وعندما تداعى الأوس والخزرج وافتخر كلّ منهم بنسبه وحاله حتى كاد الشيطان يوقع بينهم البغضاء ، نهاهم الرّسول صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك مبيناً أنّ ذلك من دعوى الجاهلية ونتنها ، فلا فضل في الإسلام لغني على فقير أو عربي على أعجمي ، فقد صهر الإسلام الجميع في بوتقة المحبّة و المساواة و الوئام و بيّن أنّ معيار المفاضلة بين البشر هو معيار التّقوى و الإيمان في قلوبهم .
و قد ضرب الإسلام أروع المثل في تقديم نماذج حيةً لرجال دخلوا في الإسلام فكان وطنهم وسكنهم ، فرأينا بلال الذي أتى من الحبشة وترك وطنه هجرةً إلى الله ورسوله وكان صهيب الرّومي وسلمان الفارسيّ وكلّهم صحابةٌ عدولٌ اتخذوا الإسلام دينهم ووطنهم ، فالمسلم يفهم الوطنيّة بمفهومها العقدي الغير مرتبط بالجغرافيا والمكان ففي حين جعل القوميون هذا المعنى ضيقاً محدداً بما رسمه الاستعمار لهم من حدودٍ جغرافيةٍ ، وسّع الإسلام هذا المفهوم وتعريف ومعنى وربطه بالعقيدة فالمسلم يرى كلّ بلاد المسلمين وطنه ويتمنّى رؤيتها موحدةً قويةً ، فكما يجمعنا الدّين واللّغة والقواسم المشتركة الكثيرة فحقّ لهذه الأمّة أن يجمعها المكان والجّغرافيا لتصبح بلداً واحداً يهابها الأعداء وتخشى جانبها الأمم .