الرشوة هي أي شيء يُدفع لإبطال حق أو إحقاق باطل. ولا يُشترط أن تكون مبلغاً مادياً، فقد تكون الرشوة شيئاً عينياً، مثل أجهزة الهاتف النقال أو كمبيوتر أو حتى دعوة للعشاء. والرشوة بمجملها لا تُدفع إلا لتغيير مسار موضوع معين حسب رغبة الراشي، لأنه لو لم تُدفع لما استفاد الراشي شيئاً، ويكون هدفه غير مشروع. والرشوة من أخطر أمراض المجتمع، حيث أنها تعير موازيين الأمور؛ فيكسب من لا يستحق الكسب، ويخسر من لا يستحق الخسارة، وهذا فساد كبير لا يعود على الأمة بغير الدمار. فهو يلغي المنافسة الشريفة، ويرفعُ أقواماً على حساب أقوام دون وجه حق. ومن يدفع الرشوة يعلم تماماً أن أضعاف ما سيدفعه عائدٌ إليه وإلا ما كان دفع، فلا يُعقل أن يكون ما يدفعه مساوياً لمكسبه، وإلا لماذا الرشوة، ولكنها لن تتجاوز العُشر من أرباحه المتوقعة على أكثر تقدير.
ضِعاف الإيمان هم من يقدِّمون الرشوة، وضعاف النفوس هم من يقبلونها، وهنا من هو أشدُّ منهما ضعفاً وفساداً؛ وهو الراشي، أي الوسيط الذي يعرَّفهما على بعض ويُسهِّل لهما مهمة إتمام دفع الرشوة. وفي هذا السياق؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لعن الله الراشي والمرتشي والرائش بينهما). واللعن هو الطرد من رحمة الله، وذلك لما في هذا الموضوع من فساد للمجتمع وظلم كبير، فكانت العقوبة اللعن. لا شيء يُبرر لأي منهم ما يفعله، فالوضع المادي والاجتماعي والمسؤوليات المالية وغيرها؛ ليست أسباباً تُبيح للمرتشي أن يقبل الرشوة. وكون المجتمع معتادٌ على مثل هذا الأمر وتفشيه في فئةٍ معينة؛ ليست أسباباً للراشي حتى يمشي مع التيار.
حاولت مجتمعات كثيرة من مختلف دول العالم محاربة الرشوة ولكن دون فائدة، قد تكون بعض المجتمعات وصلت إلى نسبة ضئيلة من الفساد؛ ولكن هذا لا يعني اختفاء هذه الظاهرة تماماً من مجتمعاتها. وهي موجودة في مجتمعنا وبكثرة للأسف، ونحن مَن يُساعد في انتشار هذه الظاهرة، لأننا نراها نُنكِرها، ولكننا لا نتوانى لحظة عن الخوْضِ فيها لو أُتيحت لنا الفرصة. وهُنا يكمن الحل، فينا نحن وليس في مؤسسات الدولة ولا في الموظفين العامين، نحن من يجب أن نضع حداً لمثل هذه الممارسات بدءاً من أنفسنا، فلو كُنا حريصين على مصلحة وطننا؛ لما سمحنا لمثل هذه الأمور أن تحدث تحت أنفنا ولا نفعل شيئاً سوى أن ننكره في قلبنا بوقتها؛ وبعد قليل نفعلها ونقول بأننا مضطرون.
أجهزة الدولة المختلفة مسؤولة عن الحدِّ من هذه الظاهرة، ولكن وقوفنا عند هذا الحد هو التواكل بعينه، فلقد ألغينا دورنا في تطوير مجتمعنا والحرص على سلامته. تدافعنا للواسطة لنوظف أبناءنا يقتل أحلام الكفاءات في الوظيفة، لأن فلان ابن فلان ذو التحصيل العلمي الأقل حصل على الوظيفة، لأن والده "بيمون" على فلان. ترسو المناقصة على فلان، لأن الوزير فلان من أقربائه، يخرج فلان من مشكلة عويصة؛ لأن فلان يكون أخوه. لحظة، نحن يا سادة مَن نفعل ما نُنكر؛ ثم نُنكر ما نفعل، نحن من نصنع المرض ثم ندعو بالشفاء؛ ولا نحاول أن نجد العلاج و دواء لنا. الحل البسيط والنهائي لمثل هذه الظاهرة السيئة وسِواها يبدأ بنا وينتهي بنا، نحن من أحدث الخلل في نسيج مجتمعنا، ونحن من نستطيع أن ننسِج خيوطه ونُحِيكَه ليكون اجمل وافضل عباءة نُفاخر بها العالم، بدلاً من الخرقة البالية التي جعلناها على حالها. نحن كأبناء سيدنا يعقوب، رمينا أخونا في البئر ورجعنا نبكي ونتهم الذئب. كلنا يتهم الدولة والفساد، حتى الفساد يا إخواني بريءٌ مِنَّا براءة الذئب من دم ابن يعقوب.