لقد جعل لله سبحانه وتعالى للحياة الدّنيا نهايةً كما خلقها أوّل مرّة وأنشأها، و جعل البشر مستخلفين فيها، فالمسلم يعلم أنّ هذه الدّنيا رحلةٌ يسير المرء فيها زماناً ثمّ يدفن في ثراها، فغريب الدّيار ربّما نزل عند قومٍ استضافوه أيّاماً ثمّ رحل وتركهم، وعابر السّبيل يمرّ بالأماكن المختلفة ثمّ يتركها مرتحلاً، فالدّنيا دار ممرّ وليست بالمستقرّ، وقد حذّرنا الرّسول الكريم عليه الصّلاة و السّلام من الرّكون إليها ونسيان الآخرة، فقد بيّن رسول الله فتنتها، وأنّها حلوةٌ خضرةٌ، والله مستخلفنا فيها فسينظر كيف نعمل، وأخوف ما خاف النّبيّ عليه الصّلاة و السّلام أن تفتح الدّنيا لهذه الأمّة زهرتها فيتنافس فيها النّاس، فتهلكهم كما أهلكت من سبقهم من الأمم، فالمؤمن حذرٌ دائماً من أن يقع في براثنها ومتاعها الزّائل، بل يضع نصب عينيه وهو يأخذ نصيبه من الدّنيا الله والدّار الآخرة.
وإنّ عمر الإنسان وأجله محدودٌ، فقد كتب الله الموت على جميع بني آدم، ولم يستثن أحداً، و قد ثبت أنّ من مات فقد قامت قيامته، و أنّ الميت حين يوضع في قبره يتولّى عنه ماله وأهله، ويبقى عمله معه في قبره، فإن كان محسناً نفعه عمله، وإن كان مسيئاً ساءه ذلك وأحزنه.
ما يصل للميت بعد موته
إنّ من إجماع العلماء على أنّ الدّعاء يصل إلى الميّت في قبره، وأنّه ينتفع بالصّدقة كذلك، وذلك لحديث:" إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث. ومنها : وولد صالح يدعو له ". وقد اختلف العلماء فيما سوى ذلك من الأعمال، أنّها تصل إلى الميّت أم لا، فمنهم من قال بأنّه لا يصله شيء منها، ومنهم من قال بأنّها تصله جميعها، ومنهم من فرّق بينها بشيء يصل وشيء لا يصل، وقد فصّل العيني القول في ذلك وانتصر للقائلين بوصوله فقال:" قلت اختلف النّاس في هذه المسألة، فذهب أبو حنيفة وأحمد رضي الله تعالى عنهما إلى وصول ثواب قراءة القرآن إلى الميّت ..
وقال النّووي المشهور من مذهب الشافعي وجماعة أنّ قراءة القرآن لا تصل إلى الميّت، ولكن أجمع العلماء على أنّ الدّعاء ينفعهم ويصلهم ثوابه لقوله تعالى:" وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ "، الحشر/10، وغير ذلك من الآيات، وبالأحاديث المشهورة منها قوله صلّى الله عليه وسلّم:" اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد ". ومنها قوله صلى الله عليه وسلم:" اللهم اغفر لحيّنا وميّتنا ". وغير ذلك. فإن قلت هل يبلغ ثواب الصّوم أو الصّدقة أو العتق؟ قلت روى أبو بكر النجار في كتاب ( السّنن ) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أنّه سأل النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - فقال: يا رسول الله: إنّ العاص بن وائل كان نذر في الجاهلية أن ينحر مائة بدنة، وإنّ هشام بن العاص نحر حصّته خمسين أفيجزئ عنه؟ فقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: إنّ أباك لو كان أقرّ بالتوحيد فصمت عنه أو تصدّقت عنه أو أعتقت عنه بلغه ذلك.
فإن قلت قال الله تعالى:" وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى "، النجم/39، وهو يدلّ على عدم وصول ثواب القرآن للميت؟ قلت اختلف العلماء في هذه الآية على ثمانية أقوال أحدها أنّها منسوخة بقوله تعالى:" والَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ "، الطور/21، أدخل الآباء الجنّة بصلاح الأبناء، قاله ابن عباس رضي الله عنهما، ومنها أن ليس للإنسان إلا ما سعى من طريق العدل، فأمّا من باب الفضل فجائز أن يزيد الله تعالى ما شاء قاله الحسين بن فضل، ومنها أنّه ليس له إلا سعيه غير أنّ الما هى اسباب مختلفة، فتارةً يكون سعيه في تحصيل الشيء بنفسه، وتارةً يكون سعيه في تحصيل سببه مثل سعيه في تحصيل قراءة ولد يترحّم عليه وصديق يستغفر له، وتارةً يسعى في خدمة الدين والعبادة فيكتسب محبّة أهل الدّين، فيكون ذلك سبباً حصل بسعيه، حكاه أبو الفرج عن شيخه ابن الزغواني. وغير ذلك من الأقوال في تلك الآية ". (1)
وقد أجمع العلماء على أنّ الميّت ينتفع بالصّدقات، سواءً أكانت صدقةً جاريةً، مثل بناء مسجد أو سقاية ماء، أو كانت صدقةً غير جارية، مثل إعطاء فقير بعض النّقود بنيّة أن يحصل الميّت على الثّواب منها، والدّليل على ذلك ما ورد في الصّحيحين:" أنّ رجلاً أتى النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - فقال: يا رسول الله، إنّ أمّي افتلتت نفسها ولم توص، وأظنّها لو تكلمت تصدّقت، أفلها أجر إن تصدّقت عنها؟ قال: نعم "، متّفق عليه، ولما رواه أحمد والنّسائي، عن سعد بن عبادة، أنّ أمه ماتت فقال:" يا رسول الله، إنّ أمّي ماتت أفأتصدق عنها؟ قال: نعم، قلت: فأيّ الصّدقة أفضل؟ قال: سقي الماء "، قال الحسن: فتلك سقاية آل سعد بالمدينة.
وقال النّووي رحمه الله في شرح حديث:" إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية "، وفيه أنّ الدّعاء يصل ثوابه إلى الميّت، وكذا الصّدقة، وهما مجمع عليهما. (2)
أحوال الميت في قبره
لقد اختلف العلماء في كون الميّت يسمع كلام الأحياء وهو في قبره، فمنهم من أكّد ذلك، ومنهم من قام بنفيه، وأمّا من أثبته فقد استدلوا بأدلة منها:
- ما ورد في الصّحيحين، أنّ النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - قال عن الميّت:" إنّه ليسمع خفق نعالهم إذا انصرفوا ".
- حديث خطاب النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - لقتلى المشركين في معركة بدر، وذلك بعد أن تركهم ثلاثة أيّام:" يا أبا جهل بن هشام، يا أميّة بن خلف، فسمع عمر رضي الله عنه ذلك، فقال: يا رسول الله! كيف يسمعوا وأنّى يجيبوا، وقد جيفوا؟ فقال: والذي نفسي بيده، ما أنت بأسمع لما أقول منهم، ولكنّهم لا يقدرون أن يجيبوا "، ثمّ أمر بهم فسحبوا فألقوا في قليب بدر، رواه البخاري ومسلم.
- ما ثبت في الصّحيحين من غير وجه، أنّه - صلّى الله عليه وسلّم - كان يأمر بالسّلام على أهل القبور فيقول:" قولوا السّلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون "، قالوا:" فهذا خطاب لهم، وإنّما يخاطب من يسمع، إلى غير ذلك ".
وأمّا الذين قالوا بأنّ الموتى يسمعون فقد قالوا بذلك مطلقاً، ومنهم من قيّده بقوله:" فهذه النّصوص وأمثالها تبيّن أنّ الميّت يسمع في الجملة كلام الحيّ، ولا يجب أن يكون السّمع له دائماً، بل قد يسمع في حالٍ دون حال، وهذا السّمع سمع إدراك، ليس يترتب عليه جزاء، ولا هو السّمع المنفيّ بقوله:" إنّك لا تسمع الموتى "، فإنّ المراد بذلك : سمع القبول والامتثال وهذا اختيار الإمام ابن تيمية ".
ومن الذين أنكروا سماع الموتى في قبورهم عائشة رضي الله عنها، محتجّةً بقوله سبحانه وتعالى:" إنّك لا تسمع الموتى "، وبقوله سبحانه وتعالى:" وما أنت بمسمع من في القبور "، فاطر/22.
وقد وافق هذا القول علماء من المذهب الحنفي، وقالوا:" بأنّ سماع أهل القليب للنبيّ معجزة، أو خصوصيّة للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وأمّا حديث:" يسمع خفق نعالهم حين يولون عنه "، فقالوا: بأنّ ذلك خاصّ بأوّل الوضع في القبر، مقدّمةً للسؤال جمعاً بينه وبين الآيتين ". (3)
سكرات الموت وعذاب القبر
يمتلئ القرآن الكريم بأدلة تثبت وجود البعث، والعقاب، والثّواب، وهو أمر عند المسلمين أظهر من أن يتمّ الاستدلال عليه، وقد أجمع أهل الأديان المختلفة على ثبوته، وإنّ من أنكر وجود البعث، أو الجنّة، أو النّار، أو شكّك في أحدها، فهو مكذّب لما جاء في القرآن الكريم، وخارج من الملة.
وأمّا سكرات الموت فقد ثبت وجودها من خلال الحديث الصّحيح الذي قام البخاري بإخراجه:" لا إله إلا الله، إنّ للموت لسكرات "، وأمّا نعيم القبر وعذابه، والميزان، والصّراط، فكلها أمور اجتمع أهل السّنة على ثبوتها، ووجدت عليها أدلة كثيرة من القرآن الكريم والسّنة النّبوية، ولم ينكرها أحد سوى أهل البدع. (4)
المراجع
(1) بتصرّف عن فتوى رقم 69795/ الأعمال التي يصل ثوابها إلى الموتى/ 12-12-2005/ مركز الفتوى/ إسلام ويب/ islamweb.net
(2) بتصرّف عن فتوى رقم 56783/ انتفاع الميت بالصدقة عنه جارية أو غير جارية/ 13-12-2004/ مركز الفتوى/ إسلام ويب/ islamweb.net
(3) بتصرّف عن فتوى رقم 4276/ من أحوال الميت في قبره./ 11-5-2000/ مركز الفتوى/ إسلام ويب/ islamweb.net
(4) بتصرّف عن فتوى رقم 119014/ الخوف من سكرات الموت وعذاب القبر وأهوال القيامة/ 12-3-2009/ مركز الفتوى/ إسلام ويب/ islamweb.net