خلق الرسول عليه السلام مع أهل الذمة
قدّم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في التعامل مع غير المسلمين من اليهود والنصارى؛ فعندما أسسّ الرسول عليه السلام الدولة الإسلاميّة في المدينة المنورّة، وامتدّت بقاع الإسلام في كل مكان، أصبح التعامل مع اليهود والنصارى واجباً على المسلمين، ولكن ضمن إطار وثوابت شرعيّة حددّها الله عز وجل، وامتثل لها الرسول عليه السلام، وهي التعامل معهم بالبر، والقسط، والحزم، ما لم يتم نقضاً للعهود. قال تعالى: ( لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) سورة الممتحنة، 8
إحسان الرسول عليه السلام وأصحابه مع اليهود والنّصارى
سوف نقدم بعض الأمثلة التي تبين إحسان وفضل الرسول عليه السلام مع اليهود والنصارى.
موافقة ومخالفة الرسول عليه السلام لليهود والنصارى
كان الرسول عليه السلام لا يتوانى عن أيّ فرصة لدعوة اليهود والنصارى إلى الإسلام، وكان لطيفاً، رحيماً أثناء دعوتهم إلى الدين، وفي بداية قدومه عليه السلام إلى المدينة كان يوافقهم على عاداتهم ليُؤلّف قلوبهم على الإسلام، ولكنّهم عندما أصرّوا على جحودهم أمر بمخالفتهم. (1)، عنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : ( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْدِلُ شَعَرَهُ وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَفْرُقُونَ رُءُوسَهُمْ فَكَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَسْدِلُونَ رُءُوسَهُمْ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يُؤْمَرْ فِيهِ بِشَيْءٍ ثُمَّ فَرَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَهُ ) رواه البخاري .
منح حرية اختيار الدين
قبل الرسول عليه السلام أن يعيش اليهود والنصارى مع المسلمين في داخل المدينة، وأقرّ لهم حقوقاً تحميهم، وتكفّل بتطبيقها مثل حق الحياة لهم، فلم يقتل يهودياً أو نصرانياً بسبب ديانته، وسمح لهم بحريّة اختيار الدين، ولم يُجبرهم على اعتناق الإسلام. قيل إنّه أتى رجل من الأنصار، وله أبناء تنصّروا قبل بعثة رسول عليه السلام، فدعاهم أباهم للإسلام، ولكنّهم رفضوا واختصموا إلى الرسول عليه السلام، فقال الرجل: (يا رسول الله، أيدخل بعضي النار وأنا أنظر؟)، (2) فأنزل الله سبحانه وتعالى تلك الآية (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) سورة البقرة، 256.
عدل الرسول عليه السلام ورفع الظلم عن اليهود
كان الرسول عليه السلام يُعاملهم بعدل، ويرفع الظلم عنهم، ويدفع الديّة لهم، ولو كان على حساب المسلمين. سرق رجل مسلم أنصاري درعاً من جارٍ له مسلم، وخبّأها عند رجل من اليهود، ثم اتّهم صاحب الدرع اليهودي بسرقتها، وكاد الرسول عليه السلام أن يصدّقهم بسبب الدلائل، ويعاقب اليهودي، فأنزل الله تعالى هذه الآيات من سورة النساء: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا * وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا) إلى قوله تعالى: (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا) سورة النساء، 105-112 ، ثم قام الرسول عليه السلام أمام الملأ، وأعلن براءة اليهودي، وأنّ السارق مسلم.(3)
يوجد مثال آخر، وهو أنّه لمّا قُتل الصحابي عبدا لله بن سهل من قبل يهود أهل خيبر لم يثبت ذلك عليهم بالبيّنة، فلم يُعاقبهم الرسول عليه السلام، ودفع الديّة من بيت مال المسلمين.(1)
معاملة الرسول عليه السلام بالخلق والأمانة
كان الرسول عليه السلام يعاملهم بالحُسنى، والبر، والعدل، والتقوى، وحسن الخلق، حفظ الأمانة، ومن الأمثلة أنّ الرسول عليه السلام استدان بعض الدراهم من يهودي ولم يحن وقت دفع الدين بعد، وبينما كان الرسول جالساً مع أصحابه، إذا بالرجل دخل على الرسول عليه السلام وتجاوز جميع الصحابة، وشدّ الرسول عليه السلام شداً عنيفاً، وقال له بغلظة: ( أوفِ ما عليك من الدين يا محمد، فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وطلب من الرسول عليه السلام قتله، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام لعمر بن الخطاب: (مره بحسن الطلب ومرني بحسن الأداء ) رواه مسلم ، فردّ اليهودي: والذي بعثك بالحق يا محمد ما جئت لأطلب منك ديناً إنما جئت لأختبر أخلاقك، فأنا أعلم أنّ موعد الدين لم يحن بعد، فأشهد أن لا إله إلا الله وأنك محمد رسول الله. وحسُن إسلام ذلك اليهودي.(4)
دعاء الرسول لهم
كان الرسول عليه السلام يدعو لهم دائماً بالهداية، وراحة البال. (1)، عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: ( كَانَ الْيَهُودُ يَتَعَاطَسُونَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْجُونَ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ يَرْحَمُكُمْ اللَّهُ فَيَقُولُ : يَهْدِيكُمُ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ ) رواه الترمذي .
بر الرسول عليه السلام
كان الرسول عليه السلام يبّرهم، ويزور مريضهم. (1)، عن أنس بن مالك رضي الله عنه: ( أَنَّ غُلَامًا مِنَ اليَهُودِ كَانَ يَخدُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فَمَرِضَ ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ ، فَقَعَدَ عِندَ رَأسِهِ ، فَقَالَ : أََسلِم . فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِندَ رَأسِهِ ، فَقَالَ لَه : أَطِع أَبَا القَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ . فَأَسلَمَ ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ : الحَمدُ لِلَّهِ الذِي أَنقَذَهُ مِنَ النَّارِ ) الألباني
عفو الرسول عليه السلام عليهم
كان الرسول عليه السلام يعفو عن زلاتهم، ويطمئن على جيرانه اليهود، ويقبل منهم الهدايا، ويعفو عن الإساءة؛ فعندما حاولت المرأة اليهودية قتله بالشاة المسمومة لم يأمر بقتلها، ولم ينتقم لنفسه ولكنّه قتلها بعد أن قتلت هي صحابيّ آخر: (فَجِيءَ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهَا عَنْ ذَلِكَ فَقَالَتْ: أَرَدْتُ لِأَقْتُلَكَ، قَالَ: مَا كَانَ اللَّهُ لِيُسَلِّطَكِ عَلَيّ، قَالُوا: أَلَا تقْتُلُهَا؟ قَالَ: لَا ). (1)
تعامل الرسول المالي مع اليهود
كان الرّسول عليه السلام يتعامل مع اليهود بالتجارة والمعاملات الماليّة بصدق، ويفي معهم، فأعطى يهود خيبر أرض، وطلب منهم أن يزرعوها ولهم شطر ما يخرج منها، كما كانت أسواق المسلمين مليئة باليهود، وكذلك أسواق اليهود مليئة بنساء المسلمين، وهذا يدلّ على وجود الأمن بينهم.(1)، عن عائشة رضي الله عنها: (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اشْتَرَى طَعَامًا مِنْ يَهُودِيٍّ إِلَى أَجَلٍ فَرَهَنَهُ دِرْعَهُ) البخاري.
معاملته لليهود والنصارى
كان الرسول عليه السلام يتواضع لليهود والنصارى، ويُخالطهم، ويتحاور، ويتناقش معهم حتى لو كانوا يقصدون مجادلته ونعته فقط، وسمح لهم الرسول عليه السلام بإصدار قوانينهم حسب تعاليم دينهم، ولم يُجبرهم على الالتزام بتعاليم الإسلامي، إلاّ إذا طلبوا محاكمة الرسول عليه السلام فكان يحكم بينهم بتعاليم الإسلام.
عندما قدم وفد نجران وكانوا من النصارى دخلوا على الرسول عليه السلام واجتمعوا معه في مسجده، وعندما حان وقت صلاتهم قاموا يصلّون في المسجد، فأراد الصحابة منعهم، إلاّ أن الرسول عليه السلام قال: (دعوهم). (2)
منح اليهود حق التملك
أجاز الرسول عليه السلام لليهود بالتملّك، ولم يُصادر أملاكهم يوماً، ولم يجبرهم على التنازل بها للمنفعة العامة؛ فعندما اشترى عثمان بن عفان رضي الله عنه بئر رومة من يهودي، وكان هذا البئر يخدم المدينة ومرافقها، كان من الممكن إجبار اليهودي بالتنازل عن البئر لصالح المنفعة العامة، إلاّ أنّ الرسول عليه السلام حافظ على مُلكيّات اليهود، ولم يجبرهم على التنازل بها للمسلمين، وإنّما تمّت عملية البيع والشراء، وقد ورد أنّ عثمان بن عفان رضي الله عنه اشترى من اليهودي نصف البئر، ثمّ قال لليهودي: (اخترْ إمَّا أن تأخذَها يوماً وآخذَها يوماً، وإمَّا أن تنصب لك عليها دلواً، وأنصب عليها دلواً. فاختارَ يوماً ويوماً). (2)
وكان الرسول عليه السلام أيضاً يأمر بالإحسان إليهم، ويأمر برعايتهم والاهتمام بهم كشؤون المسلمين. بالمقابل حافظ الرّسول عليه السلام على حرمات المسلمين، ونهى اليهود عن انتهاكها، والتمادي بها؛ فكان يعاقب كلّ من ظلم وانتهك حق مسلم، فعندما حاول يهود بني قينقاع الاعتداء على امرأة مسلمة وكشف عورتها قام الرسول عليه السلام بإجلائهم من المدينة، وكان يُنذرهم قبل ذلك، وأيضاً عندما حاول يهود بني النضير قتل الرّسول عليه السلام أكثر من مرّة، قام بإجلائهم من المدينة.(1)
المراجع
(1) بتصرّف عن مقالة هدي الرسول عليه السلام بالتعامل مع اليهود، islamqa.info
(2) بتصرّف عن مقالة حروب النبي عليه السلام، islamstory.com/ar
(3) بتصرّف عن مقال تعامل الرسول عليه السلام مع اليهود، islamstory.com/ar
(4) بتصرّف عن الموسوعة الحديثية، الدرر السنية، www.dorar.net