كان ملكاً من سلالة الملوك، غير أنه كان معجباً بنفسه،...مغروراً، وكأن الله لم يخلق احسن وأفضل منه.. حديثه عن دمائه الزرقاء لا ينقطع، ومجالسه لا يخلو منها شعراء ومدّاحون، يقولون فيه الشعر والغزل، اسمه منقوش على كل جدار، وصورته مرسومة على دراهم مملكته ودنانيرها.وبينتعرف ما هو في موكبه ذات يوم، لفت نظره رجل يحفر بدأب شديد، وحوله كومة من العظام والجماجم.. فتوقّف عنده سائلاً عما يفعل؛ فأجابه الرجل: إني هنا يا مولاي من أجلك !! فتعجب الملك لقوله، وقال: وكيف هذا؟! فدنا منه الرجل وهو يقول: في هذا المكان يا مولاي جَرَت المعركة التي قُتِل فيها ملكنا الراحل أبوك رحمه الله؛ فأحببت أن ألملم عظامه، كي تُدفن في مكان يليق بملك عظيم؛ لكنني -للعجب- وجدت شيئاً مدهشاً.
ثم أمسك بالعظام وهو يقرّبها من الملك؛ قائلاً: هذه يا مولاي جميع العظام التي عثرتُ عليها، انظر لها جيداً، هل تستطيع أن تفرّق بين عِظام أمير وعِظام فقير؟ بين بقايا غني وشحاذ؟ بين هيكل قائد في الصدارة وجندي بسيط؟
العظام يا مولاي واحدة.. الأرض جعلتهم جميعاً سواسية!! نعم.. الأرض تنتظر هناك، باطنها مستعدّ دائماً لابتلاع الكبار، هؤلاء الذين ملأهم الكبر والغرور؛ فظنوا أن الأرض لن تدور بغيرهم، وأنهم وحدهم هم زينة الدنيا وبهجتها، وبلغ بهم الشطط مبلغاً، أشفقوا فيه على الحياة ورُوّادها من أن تطلع عليهم الشمس وهم ليسوا بين ظهرانيهم.وإن هي إلا أيام -طالت أو قصرت- حتى يُصبحوا من رماد الأرض، وطعاماً لديدانها.. الشيء الوحيد الذي نعرفهم به هو ذلك الشاهد الرخامي، والذي يدلّل على موضع أجسادهم كي لا تطأها الأقدام!!
هذه أقدم الحقائق، وأجلاها صورة؛ غير أن الكثيرين ينسونها.. الكثيرون ممن لفّهم ثوب الغرور؛ لم يعوا أن هناك ثمة نقطة ما، يصبح بعدها الأمر لمن بيده الأمر؛ فلا مال ولا جاه ولا سلطان يمكن أن يصنع لهم ساتراً من الله، أو يشفع لهم عند رب قوي قادر.
نراهم هذه الأيام على الشاشات، يؤكدون بإصرار عجيب أن بلدانهم دونهم هي الخراب بعينه، وبأنهم صمّام الأمان، ومنتهى الحماية.. وأتساءل حقاً: تُرى لو جاءهم ملَك الموت ليقبض أرواحهم؛ فهل سيطالبونه بإعادة النظر؟
هيهات.. ستصعد الأرواح إلى السماء، وتُلقى الأجساد في الأرض، وتُكمل الدنيا عجلة سيرها.. ولماذا تقف لوفاة هذا وذاك؟! ولو كان لها أن تقف حُزناً أو دهشة أو ألماً وحداداً؛ لوقفت عند موت الرسل والأنبياء، وهم أشرف وأطهر وأعظم البشر عند رب البشر.
الأديب الكبير نجيب محفوظ يستعجب قائلاً: "ليس غريباً أن يعبد الناس فرعون؛ بل الغريب أن فرعون آمن حقاً بأنه إله!".
ووالله ما عَجَبُ أديبنا الراحل بأشد من عَجَبنا هذه الأيام؛ فها نحن نرى -بعين البصر لا بسمع الخبر- من يُبيد شعباً كاملاً، وفي يقينه أن كل دماء البشر تهون وترخص، في سبيل ألا يمسه سوء، كي لا يختلّ ميزان الأرض.
إنه الغرور والعظمة والكبرياء يا أصدقائي؛ ذلك الداء القاتل الذي أخرج إبليس من الجنة، وجعله لنا نداً وعدواً؛ حتى قيام الساعة.
داء خفي نحتاج إلى أن نفتش عنه بداخلنا دائماً، وبدأب شديد؛ كي لا يتسلل ويسكن فينا دون أن ندري.
ولعل هذا ما فطن إليه أحد ملوك روما القدماء؛ فدفعه إلى ألا يمشي في مملكته؛ إلا وبصحبته أحد الحكماء، ولم يكن لهذا الحكيم من عمل؛ إلا أن يهمس في أذنه إذا ما صفّق له الناس، أو امتدحوه، أو بالغوا في الثناء عليه، قائلاً "يا مولاي.. تذكّر بأنك إنسان".