يسّر الله تعالى لأحاديث الرّسول صلّى الله عليه وسلّم من يقوم على حفظها، وجمعها، وتدوينها لتكون للمسلمين مرجعًا في شؤون دنياهم ودينهم، وكما قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: (ألا وإنّي أوتيت القرآن ومثله معه)، لذلك جاءت السّنة النّبويّة والأحاديث الشّريفة مبيّنةً كثيرًا من الأحكام الشّرعيّة للمسلمين، وقد فسّرت ما أبهمه القرآن أحيانًا، وفصّلت ما أجمله القرآن في عددٍ من الأيات، وقد حرص المسلمون بعد وفاة النّبي عليه الصّلاة والسّلام على حفظ وجمع القرآن الكريم حتّى لا يختفي من الصّدور، وقد شغلهم هذا الأمر عن جمع الحديث الشّريف الذي كان كثيرٌ من الصّحابة والتّابعين يحفظونه في صدورهم، ثمّ بعد أن اطمأن المسلمون إلى جمع القرآن الكريم فكّر الكثير منهم في جمع الحديث الشّريف، وقد تميّز عددٌ من العلماء والمحدّثين في ذلك وعلى رأسهم الإمام محمّد بن اسماعيل البخاري.
ولد الإمام محمّد بن اسماعيل البخاري في بخارى في شهر شوال من سنة 194 هجري، وقد نشأ في بيت علمٍ وفقه، فكان أبوه محدّثًا يروي عن عددٍ من شيوخ الحديث ويسمع منهم، وقد توفّي والده وهو ما يزال صغيرًا فنشأ يتيمًا ترعاه أمه، وقد برز البخاري منذ نعومة أظافرة بين أقرانه كواحدٍ من الطّلبة المجتهدين في حفظ القرآن الكريم، وتّتلمذ على يد عدد من الشّيوخ من أجل سماع حديث الرّسول عليه الصّلاة والسّلام، وقد كان البخاري يتمتّع بكثيرٍ من الصّفات التي أهّلته ليكون إمامًا محدّثًا منها ملكة الحفظ التي كان يتمتّع بها، حيث كان يحفظ آلاف الأحاديث، إلى جانب ما كان يتمتع به من صفات التّقوى والورع حيث روي عنه اجتهاده في قيام الليل والتّهجد، وقد سمع الإمام البخاري الحديث الشّريف عن ما يقارب من ألف شيخ من شيوخ الحديث، منهم الإمام أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، واسحق بن راهويه وغيرهم الكثير، وقد كانت أوّل مرةٍ يفكّر فيها البخاري في جمع الحديث الشريف حين كان في مجلس اسحق بن راهويه وطُرحت فكرة تصنيف كتاب يحتوي على مختصر لصحيح الأحاديث النّبويّة، وقد وقعت تلك الفكرة في قلب البخاري وتعلّق بها، فسخّر حياته بعد ذلك للتّقصي عن الأحاديث الشّريفة حتّى جمع ما يقارب من ستمائة ألف حديث، واختار منها بعد التّحري والتّثبت الدّقيق ما يقارب من 7593 حديث صحيح بعد أن استبعد الكثير منها .
وقد تعرّض الإمام البخاري لمضايقاتٍ في أواخر حياته حملته على ترك موطنه بخارى إلى سمرقند، حيث توفي فيها ودفن في شهر شوال من سنة 256 بعد حياة زاخرة بالعلم والبذل والعطاء، رحمة الله تعالى رحمةً واسعة ورضي عنه.